في أجواء ثلجية لم تمر بها مدينة شيكاجو الأميركية لعقود طويلة اجتمع الفلاسفة في مؤتمرهم السنوي لعرض ونقاش آخر ما توصّلت له مشاريعهم البحثية. هذا المؤتمر هو المؤتمر الحادي عشر بعد المئة للجمعية الفلسفية الأميركية APA التي تأسست سنة 1900 وضمت عددا من أهم الفلاسفة في التاريخ المعاصر من أمثال جون ديوي وويليام جيمس وجورج ميد وألفرد وايتهد ودونالد ديفدسون وجون رولز وريتشارد رورتي وجون سيرل وروبرت نوزك وأمارتيا نوسبام.

بسبب ضخامة عدد الراغبين في المشاركة ولأجل فتح المجال لأكبر عدد ممكن منهم في الحضور، فإن الجمعية تعقد ثلاثة مؤتمرات في السنة، واحد للشرق الأميركي وآخر للوسط وثالث للغرب. في هذه المؤتمرات يتوافد طلاب وطالبات الدراسات العليا، أستاذات وأساتذة الجامعات، المهتمات والمهتمون للتواصل مع المجتمع المعرفي الفلسفي الذي ينتمون له. فكرة المجتمع المعرفي هنا جوهرية لأننا كما نعرف من علم اجتماع المعرفة أن المعارف والأعمال البحثية هي نتيجة التواصل داخل شبكة اجتماعية يحييها أفراد يتقاسمون الاهتمامات والأسئلة. أسطورة الباحث الذي يعيش منعزلا لوحده ويعتمد فقط على قدراته الخارقة لا تنتمي للواقع ولا لطبيعة الفكر التواصلية. المشهد المأمول في مثل هذه المؤتمرات أن يجد الباحث فيها من يقرأ ما كتب ويدخل معهم في حوار وجدل.

المؤتمر هنا يحتوي عددا من النشاطات المختلفة من محاضرات إلى جلسات نقاش إلى أوراق علمية. الجميل في قسم الأوراق العلمية أن المنظمين يخصصون لكل ورقة علمية مقبولة للعرض مناقشة أو مناقشا رئيسا يقرأ الورقة ويكتب عنها ورقة أخرى. بمعنى أن الباحث هنا يضمن أن هناك باحثا آخر سيقرأ بحثه بطريقة احترافية وسيكتب له ردا عليه. هذه الآلية تفتح علاقة تواصل أولية وبسيطة بين شخصين على الأقل على أمل أن تجد هذه الشبكة من ينضم لها من الحضور والمستمعين خلال فترة النقاش التي تعقب كل جلسة. هذه الأجواء التواصلية تهيئ الباحث بشكل عميق للاستماع وقبول الاختلاف والتفاعل بأريحية وأدب واحترام مع الأفكار والطروحات المختلفة. نتفاجأ أحيانا نحن الطلاب المبتعثين حين نرى أستاذا في جامعة أميركية يتقبّل بأريحية اختلاف الطالبات والطلاب معه. نتفاجأ حين يعلن في مرّات كثيرة أنه لا يعرف الجواب على سؤال ما ويعد الحضور بالبحث أكثر في الموضوع. الحقيقة أن هذه الأستاذة وهذا الاستاذ نتاج تربية منظّمة تبنتها التقاليد الأكاديمية منذ فترات طويلة. هذه الأستاذة كانت ولا زالت باحثة تذهب للمؤتمرات العلمية لا للحصول على التبجيل والتطبيل ولا للتخويف والإحباط بل لتدخل في نقاش أخلاقي وعلمي مع مهتمين ومشتغلين بالأسئلة والقضايا ذاتها. بمعنى أن المؤتمرات هنا هي انعكاس لتصورات المجتمع الأكاديمي عن المعرفة والتواصل وفضاءات الإنجاز البحثي.

كان هذا حضوري الأول للمؤتمر وكنت على رغبة كبيرة للتعرف على القضايا المطروحة التي يمكن أن تعكس تصورا عن أهم الأسئلة المتداولة في الفضاء الفلسفي في أميركا وكندا. من ناحية المنهج كنت أعلم أن الفلسفة التحليلية هي صاحبة الانتشار الأكبر في هذا الفضاء. الفلسفة التحليلية هنا تأتي في مقابل الفلسفة القارّية المنتشرة أكثر في فرنسا وألمانيا. لا بد من القول بأن هذا التقسيم ضبابي ففيلسوف ألمانيا الأهم اليوم يورغان هابرماس فيلسوف تحليلي وفي المقابل توجد أغلب المدارس الفلسفية غير التحليلية في الأوساط الفكرية الأميركية. الفلسفة التحليلية تهتم بالدقة والوضوح وتتبنى لغة الحجاج المنطقي ولذا فهي ملائمة للأجواء والمعايير الأكاديمية. هذا من ناحية المنهج ولكن ماذا عن القضايا والأسئلة. الحقيقة أن المؤتمر متنوع بشدة. هذه أمثلة على هذا التنوع: مفهوم المادة عند أرسطو، حرية الإرادة، كارناب حول المودالتي، الفلسفة البوذية في كوريا، علم نفس الأخلاق، الميتافيزيقا النسوية، الليبرالية والعقل الجمعي، الهوية والموت، فلسفة التربية، التسامح الديني، الظاهراتية والعرق، الفلسفة الصينية، كانت وهيجل..الخ. هذه الاهتمامات تعكس القضايا المطروحة بشكل أساس في الوسط الفلسفي الأكاديمي ومن خلالها يمكن للباحث التنبؤ بحركة الفكر والفلسفة.

غالبا ما تعقد هذه المؤتمرات في فنادق كبيرة وفي كثير من الأحيان يسكن المشاركون في الفندق ذاته. هذا يوفر حركة سريعة للحضور وتوفيرا هائلا للوقت والجهد. جدول النشاطات يبدأ مبكرا حوالي الثامنة والنصف وينتهي في السابعة وأحيانا التاسعة مساء. نشاطات عديدة تقام في ذات الوقت ولذا فإنه من المهم للمشارك أن يقوم بتحديد خياراته بدقة لحضور أكبر قدر من النشاطات التي تهمّه. تلك القرارات ليست سهلة. على سبيل المثال كنت في حيرة في صباح أحد أيام المؤتمر بين حضور جلسة عن التسامح الديني وبين جلسة عن التركيب عند كانت وهيجل.

في الختام.. في رأيي أن من أهم المكاسب في أي مؤتمر التعرف على الناس والتواصل معهم على المستوى الشخصي وخارج الإطار الرسمي للمؤتمر. من هنا يبدأ الباحث في تكوين شبكة تواصل خاصة قد لا تبقى في حدود التواصل الأكاديمي وتمتد لمستوى العلاقة الإنسانية الأعمق والأهم. أعتقد أنه من الحالات المثالية أن تعثر على إنسان تحبه وتشترك معه في الاهتمامات ذاتها. في كثير من الأحيان تعثر على واحدة فقط من الاثنتين. شخص تحبه بدون اهتمامات مشتركة أو شخص باهتمامات مشتركة بدون محبة وود. هذه المؤتمرات تعمل كالخطّابة تماما بمعنى أنها تضع الناس أمام بعضهم لعل وعسى أن تنشأ بينهم علاقات إنسانية أعمق وأوسع من مجرد التواصل الفكري أو الأكاديمي. في الأسبوع القادم سأتحدث عن تفاصيل أكثر عن المؤتمر وعن كلمة رئيس المؤتمر لأعضاء الجمعية الفلسفية الأميركية.