كان توقيت زيارة الرئيس أوباما للرياض يومي الجمعة والسبت الماضيين "28-29 مارس" مُلحّا، فقد آن الأوان لمراجعة السياسات الأميركية في المنطقة، خاصة فيما يتعلق بسورية وإيران والأراضي المحتلة. وهدف الجانب الأميركي كذلك إلى التأكيد على أن أي تباين في وجهات النظر يجب ألا يؤثر على الشراكة الاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية، وكان الاجتماع مواتيا على وجه الخصوص لمناقشة الوضع في سورية في ظل فشل مؤتمر "جنيف 2".
وتُعدّ الشراكة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن مرتكزا رئيسا لسياسة أميركا في المنطقة، منذ لقاء الملك المؤسس والرئيس روزفلت في 14 فبراير 1945، حينما أرسيا دعائم هذه الشراكة التي استمرت رغم الكثير من الأزمات التي مرت فيها المنطقة، التي لم تكن رؤية البلدين نحوها متطابقة دائما.
ولكن التباين في وجهات النظر من القضية السورية، والملف الإيراني، يختبر صلابة هذه العلاقة بشكل لم يسبق له مثيل. فعملية جنيف، التي رعتها الولايات المتحدة مع روسيا باءت بفشل ذريع، وبدلا من أن تقرب السوريين إلى السلام، أدت إلى نتيجة عكسية، إذ مكّنت النظام من تصعيد هجماته المدمرة ضد المدنيين، واستعادة مناطق عدة كان قد فقد السيطرة عليها، ومما ساعد النظام على تحقيق هذه الأهداف تزامن "جنيف2" مع تخفيض الولايات المتحدة لمساعداتها للمعارضة السورية، وتصعيد أنصار النظام في إيران والعراق ولبنان لدعمهم له بالأسلحة والمقاتلين.
واتضح أن ثقة أميركا في عملية جنيف لم تكن في محلها. فمن ناحية، استغل النظام العملية لكسب الوقت والاختباء تحت عباءة الرعاية الدولية؛ لتصعيد هجماته العسكرية ضد المعارضة، وفي الوقت نفسه مناقشة تشكيل حكومة انتقالية، وهي المبدأ الرئيس في "جنيف1" والهدف الأساس "لجنيف2". ومع أنه كان مفهوما قبل "جنيف 2" أنه لن يكون للأسد دور في الحكومة الانتقالية إلا أن أنصاره، بعد إفشالهم "لجنيف2"، أصبحوا يتحدثون عن احتمالات ترشحه للرئاسة في الانتخابات القادمة.
بعبارات أوضح، حوّل النظام السوري جنيف إلى "مسخرة". وعلى نحو مشابه، يبدو أن روسيا قد استخلصت كذلك عِبَرا خاطئة، فمن الظاهر أن ضمّها لشبه جزيرة القرم، وتحركاتها العسكرية في مناطق أخرى من أوكرانيا، قد بُنيتْ على فرضية أن الولايات المتحدة ستتجنب المواجهة، كما تجنبتها في سورية، ولن تستطيع التصدي لروسيا لو أرادت. وكما في سورية، استخدمت روسيا حق النقض في مجلس الأمن لمنع تمرير قرار دولي بشأن أوكرانيا.
وتوضح تطورات ما بعد جنيف أن الدبلوماسية ليست بديلا عن التحرك الفعلي على الأرض لدعم المعارضة السورية المعتدلة، في مواجهاتها مع النظام والمجموعات المتطرفة.
ولذلك، فإن من الضروري بعد فشل جنيف، العودة إلى الأساسيات التي يؤمن بها معظم السوريين، ومعهم غالبية دول العالم. فيجب تذكر أن النظام السوري قد فقد شرعيته، وأن الشعب قد اختار الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة ممثلا شرعيا لهم، ولذلك أصبح ضروريا ترجمة هذه المواقف إلى فعل عن طريق تقديم جميع أنواع الدعم للائتلاف، ورفع الحظر الأميركي على تزويد المعارضة بالأسلحة المتقدمة التي تمكنها من تحييد سلاح الطيران الحكومي، ورفع مستوى وحجم التدريب العسكري لها.
ولهذه الأسباب، كان مشجعا ما رشح من أخبار واشنطن الشهر الماضي عن شروع الإدارة الأميركية في إعادة تقييم خياراتها في سورية، وهو ما أكده وفد الرئيس الأميركي في الرياض.
وفيما يتعلق بالملف الإيراني، فإن الاتفاق المبدئي الذي تم التوصل إليه لم يكن مطمئنا تماما لجيرانها، ولم يؤد إلى تحسن في مواقفها الإقليمية، بل على العكس، إذ كثفت إيران وحلفاؤها جهودهم الرامية إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة.
ويحلو للمسؤولين الأميركيين تكرار مقولة "إننا لن نبرم اتفاقا سيئا مع إيران"، ومقولة "إن عدم التوصل إلى اتفاق أفضل من التوصل إلى اتفاق سيئ"، وإنهم مصممون على منع إيران من الوصول إلى السلاح النووي. ولكن ماذا تعني هذه المقولات على أرض الواقع؟ هل يُعدّ الاتفاق "جيدا" إذا كان لا يأخذ بعين الاعتبار تعدد مراكز القوى في إيران، ويعتمد على تأكيدات المحاورين الإيرانيين الذين قد لا يمثلون صانعي القرار الحقيقيين في إيران، الذين قد لا يتفقون مع وجهات النظر المعلنة؟ وهل يعدّ جيدا إذا كان لا يُلزم إيران بالانضمام إلى الاتفاقيات الدولية كافة ذات العلاقة، ولا يرتكز على نظام محكم ودقيق ودائم للإشراف الدولي على المنشآت النووية الإيرانية؟ فدون ضمانات بأن إيران لن تطور قدرات نووية عسكرية لن يُطمئِن الاتفاق الغربي- الإيراني المنطقة بشأن نواياها، بل قد يؤدي بدلا من ذلك إلى سباق تسلح نووي غير مسبوق.
ولا يقل أهمية عن ذلك أن نتساءل: هل يُعدّ الاتفاق "جيدا" إذا كان يركز على تأخير تطوير قدرات إيران النووية مقابل إطلاق يدها في سورية؛ كي تزيد من دعمها لبشار الأسد للإجهاز على ما تبقى من الشعب السوري؟ وهل يُعدّ جيدا إذا كان يتيح لإيران أن تستمر في تسليح وتمويل الميليشيات الطائفية وإثارة النعرات الطائفية في المنطقة؟
من المؤكد أن الرئيس الأميركي قد استمع خلال زيارته للرياض إلى كل ذلك وأكثر من وجهات نظر عن سياسات أميركا في المنطقة. والأهم من ذلك، أن الحقائق على الأرض في سورية وأوكرانيا وغيرهما، كلها تؤكد الحاجة إلى إعادة تقييم مواقف أميركا.
وينتظر الجميع أن تفي أميركا بوعودها في إعادة النظر في خياراتها، واتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة؛ لمقاربة قضايا المنطقة بما يعيد تأهيل صورة أميركا ودورها الدولي، ويعزز الشراكة الاستراتيجية السعودية-الأميركية ويعيدها إلى مسارها التاريخي.