بعد عشرة أشهر من إعلان إدوارد سنودن عن تفاصيل برنامج المراقبة التي تقوم بها الحكومة الأميركية للاتصالات والبريد الإلكتروني والشبكات الاجتماعية، وهي التضحية التي كلفت سنودن مستقبله المهني وجعلته أحد أهم المطلوبين الأميركيين، أعلن الرئيس أوباما يوم الخميس الماضي (وقبل يوم واحد من توجهه للمملكة)، أن الحكومة الأميركية ستتوقف عن جمع "البيانات" الهاتفية للاتصالات الأميركية.
هذا الإعلان بالرغم من كونه يمثل نقلة كبيرة في موقف الحكومة الأميركية ووكالة الأمن القومي (NSA)، إلا أنه يبقى محدودا أمام حجم المشكلة، أولاً لأنه خاص بالأميركيين فقط، بينما تبقى الحكومة الأميركية في حرية كاملة من حيث التجسس على غير الأميركيين، ولأنه ينص على أن شركات الموبايل الأميركية ستحتفظ بالمعلومات لمدة عام ونصف على الأقل في حال احتاجت إليها الحكومة الأميركية لتحليل بيانات شخص بعينه، في حال وجود شك في ارتباطه بإحدى الجرائم الفيدرالية (والتي يندرج كثير منها تحت تعريف الإرهاب).
التجسس على الأميركيين خط أحمر، بحسب القانون الأميركي، ووكالة الاستخبارات الأميركية كانت دائما ممنوعة من ممارسة أنشطة ضد الأميركيين، ولذلك لما حصلت الفضيحة، بذل البيت الأبيض جهدا كبيرا ليشرح للأميركيين أن ما يجمع ليس نص المكالمات ولا ما يدور فيها، إنما فقط البيانات الخاصة بمكالماتك (Meta-Data)، متى اتصلت وبمن اتصلت وكم دامت المكالمة، وهي نفس المعلومات تقريبا التي تجدها على فاتورة موبايلك. هل هذا يمثل خطرا فعلا مقابل الفائدة الكبيرة التي تحصل عليها الحكومة الأميركية من متابعتها للأشخاص المشبوهين مقابل هذه المعلومات؟
كان هذا السؤال الذي دار حوله جدل كبير في الإعلام الأميركي، وكان نقاشا مهما في تاريخ ثورة المعلومات، لأنه لخص الكثير من القضايا ذات العلاقة بالخصوصية وفهم حركة المجتمع وتغيراته من خلال هذه المعلومات. إحدى الدراسات العلمية ذات العلاقة بالموضوع قام بها معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا (MIT) الشهير، أكدت أنه يمكن بالفعل الربط بين هذه المعلومات وبين أنماط شخصية الإنسان النفسية، مما يعني طبعا القدرة على التغلغل في الكثير من الأبعاد النفسية التي ترتبط بأنماط الشخصية الخمسة. هذه الأنماط هي:
1- الشخصية العصبية: التي لديها ميول أكثر من المعدل للمشاعر الغاضبة وغير السعيدة.
2- الشخصية المنفتحة: والتي تتميز بالفضول المعرفي والإبداع.
3- الشخصية التابعة: والتي تنظر دائما للآخرين للاقتداء بهم.
4- الشخصية المتعاونة: وهي شخصية متفهمة، متعاونة، محبوبة من الآخرين.
5- الشخصية المنظمة: وهي الشخصية التي تهتم بالنظام والتربية الذاتية والالتزام بالقواعد والقيم.
بالمقابل تم تحليل المعلومات التالية عن كل شخص شارك (طوعا) في التجربة:
1- الاستخدام الهاتفي العام، بما في ذلك عدد المكالمات ومعدل طول المكالمة.
2- الوقت الذي استهلكه الشخص للرد على رسالة أو اتصال لم يسبق الرد عليه، وعدد المكالمات التي اتصل فيها الشخص بأشخاص لم يتصلوا به في نفس اليوم.
3- حركة الإنسان أثناء الاتصالات ومن أي نقطة إلى أي نقطة انتقل أثناء المكالمة وبين المكالمات.
4- مدى الروتينية والتغير في طبيعة المكالمات.
5- تنوع العلاقات، أي معدل المكالمات لكل شخص ونسبتها، وعدد الأشخاص الذين يتواصل معهم.
كل هذه المعلومات تمت الاستفادة منها في دراسة كمبيوترية ضخمة تم نشرها في إحدى المجلات العلمية الشهر الماضي، لتستنتج أنها عوامل بمجموعها قادرة على تحديد شخصية الإنسان من بين الأنماط الخمسة.
مثل هذه الدراسة، ودراسات نظرية أخرى، تشرح كيف يمكن الاستفادة من هذه المعلومات في فهم طبيعة المجتمع وحركته ومجموعاته وتغيرها وتكتلاتها بشكل لم يكن مسبوقا من قبل، جعلت العالم عموما والأميركيين بالذات، أكثر رعبا لما يعنيه التجسس على اتصالاتهم.
ولكن ما ينساه كثير من الناس أن هذه المعلومات نفسها متوافرة للشركات والمعلنين الذين يحاولون الحصول على كل هذه المعلومات من سجلاتك الهاتفية ومن استخدامك للشبكات الاجتماعية، ووضعها في برامج ضخمة للتنقيب عن البيانات (Data Mining)، ومن ثم التخطيط للتسويق لك بشكل فعال.
قبل أشهر، سمعت عن شركة اتصالات آسيوية كبرى تملك برنامجا يمكنها من التسويق لعملائها وعملاء الشركات المنافسة بعد التعرف العميق على شخصياتهم من معلوماتهم وبياناتهم. لما تواصلت مع هذه الشركة، اكتشفت أن التكنولوجيا تملكها شركة إسرائيلية، وهي الشركة التي حصلت على نسبة من ملكية الشركة الآسيوية كجزء من صفقة شراء هذا البرنامج. بعدها علمت أن الشركات الإسرائيلية هي الرائدة في صناعة هذه البرامج.
ربما لن يحتاج الإسرائيليون لاحقا للكثير من رجال الاستخبارات ليعرفوا ما يريدونه عنا، فبرامج الكمبيوتر تقدم لهم كل شيء على طبق من ذهب وبدون الكثير من الجهد على الأرض.