ليلة هذا اليوم السابع والعشرين من رمضان؛ لها روحانيتها الطاغية الممتدة لكل أنحاء العالم، وتتأكد لدينا هنا في أرض الرسالة والحرمين، عبر هذه الأجواء القرآنية التي نعيش. تتسمّر الأنظار في شاشات التلفاز لتستمع للتلاوات التي يتألق فيها أئمة الحرم بأصواتهم التي اخترمت ذائقة الجغرافيا الإسلامية بأكملها، فيما درج في كل السنوات الفارطات الشيخ عبدالرحمن السديس في صوت أخاذ بدعاء القيام، محلقاً بالمصلين في أجواز الإيمانيات العليا، بتبتل وخشوع وبكاء وجأر وإلحاح على الله بالثناء والحمد والطلب المتكرر؛ أن نكون من عتقائه من النار في شهر الغفران والرحمة والعتق.

لسنوات خلت، تمتد إلى أكثر من خمسة وعشرين عاماً؛ أحرص على حضور تلك العشر مجاوراً لبيت الله الحرام- فضلاً من الله ومنّة- خلا السنوات الأخيرة التي امتد بي العمر، وثقلت بالمسؤوليات والأبناء. أتذكر كيف كنت ولداتي -في أواسط الثمانينيات الميلادية من القرن الفارط- نتسابق للحرص على أن نكون ضمن المصلين داخل الحرم المكي، فثمة ليلتان يفيض فيهما الحرم المكي بالمصلين والمعتمرين، وتمتد صفوف الصلاة إلى داخل الأزقة البعيدة للحرم من فرط الإقبال والحرص، هما ليلتا السابع والعشرين وختم القرآن الكريم في التاسع والعشرين، وكم يشدهك المنظر لملايين المصلين الذين أتوا أفواجاً من كل حدب وصوب، ويمتلئ قلبك فرحاً من إقبال الناس على الدين، وحرصهم على العمرة وقيام هاتين الليلتين، في صورة مهيبة وآسرة، تحلق فيها إلى عوالم إيمانية، تمضي فيها خاشعاً مع الشيخ السديس، الذي يتهدّج بصوته الباكي"اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا في من عافيت.." فيما أكثر من مليوني مصل يجأرون معه بالتأمين، عبر أصوات تزلزل جنبات المسجد الحرام، بكاءً وتضرعاً وانطراحاً بين يدي الربّ جلّ وعلا، ويمضي إمام الحرم متفنناً في مقاطع الدعاء، مستحضراً قضايا الأمة والوطن، والفرد والمجتمع، والدنيا والآخرة، بدعاء بديع جامع شامل. فكل العالم الإسلامي حاضر في دعاء ليلة القدر، عبر رسالة تقول إن هذه الأرض هي القبلة، وهي المبتدأ والمنتهى والرأس.

عبر سنوات العقدين والنصف، أكرمني الله في غالبها بالمجاورة، وحفظت الذاكرة الكليلة بعض مشاهد وصور انحفرت بها، وتنثال منها في مناسبات تستدعيها، ولا أنسى انفلاتنا لدرس الشيخ محمد بن عثيمين يرحمه الله في سطح الحرم، بين صلاتي التراويح والقيام في العشر الأواخر، حيث كنا نستزيد العلم والإيمان من ذلك العالم الرباني، وأمامنا حافظات القهوة والتمر مستمتعين بدعابات الشيخ لتلامذته، ومفاجأته للغافي والشارد بفكره، بسؤال مباغت، وقد أمره بالوقوف أمام آلاف المستمعين؛ يتوب بعدها عن السرحان، منتبهاً حاضر الذهن أبداً.

مما حفظته الذاكرة عن ليالي العشر المباركات، تلك السُفر الطويلة، التي تتبدى فيها الرفادة الحقيقية، وكرم أهل هذه البلاد الموسرين، فيا لفرحة صاحب السفرة باستجابة الفقراء والعابرين واكتظاظهم على مائدته. فرحٌ حقيقي يطفر من عينيّ المضيف، فيما سكن الملبّون على اختلاف مشاربهم ولغاتهم يقرؤون أوردتهم وأدعيتهم، وتغشتهم السكينة بتلك الأويقات قبل الأذان، في حالة من الروحانية يصل فيها المخلص لمرتبة الإحسان من فرط الإيمانيات التي هم عليها، ويقبلون على الله بدعاء ومناجاة في لذة لا تضاهى، لا يعرفها إلا أولئك الذين أشربوا القرآن في قلوبهم؛ المخبتون لربهم، والمنكسرون بين يديه ذلاً وحباً، وما أكثرهم..

في يفاعتنا تلك، ورغم أننا أتينا مجاورين لبيت الله في أحبّ الأمكنة والأزمنة لرب العالمين، إلا أن أبا مرّة لا بدّ له من الوسوسة، وتزيين بعض الخطأ، فلم نك نقوَى ونصبر على تميرات تسدّ الرمق ونحن نتفجر طاقة وقوة، فيتطوع بعض الأشقياء منا بتهريب الأطعمة الممنوع دخولها، بطرق عجيبة تتفتق أذهانهم عنها، يغافلون بها الحراس، فتجد سفرتنا عامرة بالشطائر، والشوربات والبروست الأندر من الكبريت الأحمر، بله شراب السوبيا الساحر (شراب من الشعير يحبّه أهل الحجاز)، ويا لله!! كم كان طعمه لذيذاً، لكأننا نتذوقه للمرة الأولى، ونفتتن بطعمه (ظني لو سمحوا لنا به لم نشعر بذلك الطعم الباذخ.. إنها لذة الممنوعات!!)، وبعد أن تمتلئ بطوننا، تلوك ألسنتنا الحديث عن حرمة ما فعلناه، ونعود نسوّف ونبحث عن مخارج فقهية لما قمنا به بعد تأنيب الضمير الذي لا يأتينا –عادة- إلا بعد اقتراف الأكل والمخالفة والشبع، وفي غدنا نعود سيرتنا الأولى!!..

كان من أصعب الأمور وأشقها على المعتكفين والمصلين في سطح الحرم، في تلك الأزمنة؛ موضوع قضاء الحاجة، فدورات المياه بعيدة، والوصول إليها دونه خرط القتاد، وتجاوز مئات الصفوف، وزحام يصل في حدته أن يرتفع الإنسان عن الأرض من فرط تلاصق الأجساد، فتتعذب كثيراً كي تصل للدورات، وإن وصلت لها؛ فأمامك صف طويل من المنتظرين دورهم خلف كل باب. كان عذاباً حقيقياً، وكنا نعلل –بعقلية الشباب إذاك- أن هذا عقابٌ من الله على تهريبنا السوبيا والأطعمة. ورغم أن الدولة وفرت دورات مياه بالآلاف، وخففت ما كان يعانيه المعتمرون والمصلون في السابق؛ إلا أن هذا الأمر يظل من الأمور الصعبة التي يواجهونها.

أستحضر دعاء الشيخ عبدالله الخليفي يرحمه الله، وقد قدموه في إحدى السنوات ليختم لنا القرآن. كانت مفاجأة سارة، ولا أنسى وأنا أسترق النظر من الصف الأول بالسطح -كنا نحرص على الصف الأول ليتسني لنا النظر للكعبة فهو من العبادة التي نؤجر عليها- ورأينا تقدمه للصلاة وفرحنا ليلتئذ جداً بسبب روحانية الشيخ، وفعلا؛ كانت ليلة بكاء طويلة، ذرفنا فيها من الدموع حتى جفت المآقي فعلاً مع ذلك الإمام الرباني يرحمه الله.

وعلى مذهب الشجى يبعث الشجى؛ لا أنسى في ليلة التاسع والعشرين بأحد الرمضانات، وقد انصرف الناس بعد ختم القرآن، أمّنا الشيخ عبدالباري الثبيتي –أحد أحبّ القراء الذين كانوا يأخذون بألبابنا في تلاواتهم- وكان الرجل قد غاب عن الإمامة لعارض صحي، وعاد لنا في الليلة الأخيرة، وحلق بنا في قراءة استثنائية، وبتلاوته العذبة المتدفقة، حبس –والله الذي لا إله إلا هو- منا الأنفاس، وفاضت فيها العبرات، واتصلت أرواحنا بالملكوت الأعلى، فيا لعذوبة تلك القراءة وجمالها!! ويا لروعة ذلك الصوت القرآني الفريد!! آمنا حقا في تلك الليلة بسحر القرآن الكريم وحلاوته، ساد السكون بالكامل الحرم المكي خلا صوت الشيخ وهو يتغني بالآيات، تالياً بمزمار من مزامير آل دود، هكذا ظننا. توقف الزمن من حولنا، ولم نشعر بطول القراءة من فرط روعتها، وغبنا في عوالم القرآن وسحره. أتذكر أننا سلمنا، ونظرت لصديق عزيز بجانبي والدهشة ملء أعيننا أننا بجانب بعض، ولكأننا أفقنا من حلم وعدنا لواقع وصحو.. لا غرو أن يقبل العالم الإسلامي على اقتناء أشرطة قرائنا الذين نفاخر بهم والحمد لله.

ذكريات كثيرة من ليالي العشر حفرت في الذاكرة، أسأل الله تعالى أن يتقبل قيامنا وعبادتنا فيها، وأن تكون خالصة لوجهه الكريم، ولربما في رمضانات قادمة أسرد نتفاً منها.