تعافت ـ بفضل الله ـ مصر، وستتعافى ـ بقدرة الله ـ أكثر من أي وقت مضى، ومن أدلتي على ذلك ما شهدته القاهرة الثلاثاء والأربعاء الماضيين من أعمال للمؤتمر السنوي الثالث والعشرين للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والذي نظمته وزارة الأوقاف المصرية برعاية رئيس الجمهورية، تحت عنوان "خطورة الفكر التكفيري والفتوى بدون علم على المصالح الوطنية والعلاقات الدولية"، بعد ثلاث سنوات من توقف انعقاده بسبب الأحداث (القديمة).. أربعون دولة، وأربعمئة عالم، ورئاسة حصيفة وجريئة، وجهود حيوية وموفقة لوزير الأوقاف الأستاذ الدكتور محمد مختار جمعة، وعمل دؤوب على قلب واحد من صحبه الكرام، وخمس جلسات علمية ثرية، وافتتاحية فيها من العلم الغزير ما لا يمكن أن يقوله بهذا الوضوح إلا فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، الذي أكد على أن البعد عن التكفير أصل من أصول الإسلام، ودعا العلماء إلى مقاومة الانحراف التكفيري بالأدلة الواضحة والحوار الهادئ.

الإمام الطيب وبعد تنقيب في تاريخ بدايات آفة التكفير أرجع الأمر إلى "الفهم الخاطِئ للعلاقةِ بين مفهوم الإيمان بالله كأصل، والأعمال كفرع"، مضيفا أن من أهم الأسباب المشجعة على التكفير "الغلوِّ والتشدد في الفكر الإسلامي"، وبكلام دقيق للغاية ذكر فضيلته "أن محور الخلاف بين عقيدة التكفيريين وعقيدة سائر أئمَّة المسلمين يَكمُن فيما يُسمى في مبحث الإيمان والإسلام عند علماء العقيدة بعلاقة العمل بجوهر الإيمان وحقيقته"، ثم قرر فضيلته "أن قضية التكفير لا يملكها أحد، ولا هيئة ولا جماعة ولا تنظيم.. وهي منوطة بالقضاء وبأولي الأمر، ولا يسارع إليها إلا الجهلة من الناس، ذاكرا ومذكرا بالمقولة الشهيرة للإمام الغزالي: "الخطأ في ترك كفر ألف كافر أهون من الخطأ في سفك مِحجَمة من دم مسلم"، مثنِّيًا بمقولة أخرى للإمام محمد عبده: "إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر"، خاتما بيانه ـ وثيقته ـ بأن علاج قضية التكفير هو السبيل الأوحد للحفاظ على الأمن الداخلي والسلام العالمي..

أوراق العمل التي قدمت عن الجزء الثاني من الموضوع، "الفتوى بدون علم" كانت ثرية، والمداخلات مفيدة، والكل أجمع على أن من يتقلد منصب الإفتاء لا بد أن يكون ملما بفقه الشريعة الإسلامية، وأنه ينبغي لمن ليس أهلا للفتوى أن يبتعد عن ساحتها، لأنه معرض باقتحام مجالها وهو غير مؤهل لها لغضب الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وأن تكون مرجعية المفتين مبنية على الأصول الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة، وضرورة أن يقوم العلماء بتوضيح الشبهات في أقوال الغلاة ودعاواهم والرد عليها، ووجوب رعاية مصالح الأمة العظمى ودرء المفاسد الكبرى عنها من الحاكم والمحكومين، وطالب الجميع بالعمل على توسيع دائرة الفتوى والمفتين والاهتمام بهم من ناحية النوع والكم، كما طالبوا بضرورة التعاون والتنسيق بين مؤسسات الإفتاء والمجامع الفقهية والجامعات الإسلامية في الدول الإسلامية من أجل الإجابة عن تساؤلات الناس.

المهم الآن ـ والظن في الله حسن ـ التطبيق العملي على أرض الواقع لما صدر من توصيات، والمضي فورا في التنسيق لوضع الآليات اللازمة لنجاحها؛ فيكفي ما سببته فوضى التكفير، وفوضى الفتوى من اغتيال ـ باسـم الدين ـ لأرواح الآمنين، أو عقولهم.