كتبت في 14 يونيو 2009 في صحيفة الوطن مقالا بعنوان "ثقافة الساتر" أشرت فيه إلى أن محك النجاح في مواجهة أي تحدٍّ يكمن في ثقافة الابتكار والتفكير خارج الصندوق، وهي مسألة لا تستلزم أن يكون الهدف هو الخروج بأفكار غير مسبوقة أو الوصول إلى اكتشافات جديدة. في واقع الأمر فإن الابتكار والتفكير خارج الصندوق لا يستلزم أكثر من مجرد عدم التقيد بمناهج التفكير السائدة في التعامل مع أي وضع أو تحدٍّ، وبعض الأحيان تكون أكثر الأفكار ابتكارا هي أبسطها وأحيانا قد لا يحتاج الأمر سوى إلى العودة لفكرة قديمة فعالة.
أزمة ثقافة الابتكار والتفكير خارج الصندوق في مجتمعنا أشبه بثقافة الساتر الذي بات جزءا من منازلنا. فأحد أبرز الخصائص التي تتميز بها منازل السعوديين هي ارتفاع ساتر خشبي أو حديدي لعلو مترين أو ثلاثة فوق أسوار المنازل بهدف حفظ خصوصية المنزل وأهله خاصة في المناطق التي تتلاصق فيها الفلل السكنية بجانب بعضها البعض. والنتيجة هي أشكال مشوهة من البيوت في كل مدننا، حيث يقبع منزل مصمم على الطراز الغربي يحيط به سور فوقه ساتر مرتفع لحفظ الخصوصية.
في المقابل، عالج العرب قديما مسألة الخصوصية هذه بفكرة بسيطة مبتكرة وهي جعل المنازل تتوجه إلى الداخل بدلا من الخارج كما في البيوت العربية القديمة من الشام إلى المغرب، حيث يصبح حائط المنزل هو السور أيضا وتطل غرفه على صحن المنزل الداخلي. المعمار العربي القديم تعامل مع واقعه وأنتج شكلا جميلا له استخدام حقيقي، بدلا من بيوتنا المصممة على الطراز الغربي والتي تحتاج لسواتر مرتفعة لتوائم الواقع.
ما ينطبق على السواتر في بيوتنا ينطبق على سياسات الدولة العامة، فالمسؤول لدينا يفضل استخدام الساتر عوضا عن الخروج بفكرة بسيطة ومبتكرة مثل السماح ببناء بيوت على الطراز المعماري العربي القديم لمعالجة مسألة الخصوصية. إننا نتحدث عن مشاكلنا الاقتصادية المتعددة، عن البطالة، وعن تنويع قاعدة الاقتصاد، وعن جذب الاستثمارات الخارجية وعن كثير غيرها من القضايا، ونشرق ونغرب بحثا عن حلول ومقترحات في حين نتجاهل بعض الأفكار المبتكرة والبسيطة بين أيدينا.
"برنامج التوازن الاقتصادي" (Economic Offset Program) الذي بدأ بمبادرة من وزارة الدفاع في مطلع الثمانينات أبرز مثال على هذا الأمر، وعلى إهدار الفرص للتعامل بابتكار مع تحدياتنا. ينص البرنامج باختصار على وضع شرط في عقود التسليح والمشتريات العسكرية من الشركات العالمية على أن تقوم تلك الشركات باستثمار ما نسبته 30-35% من قيمة عقودها في السوق السعودية من خلال نقل التقنية (know-how transfer) وإنشاء الشركات والمصانع في المملكة، التي تقوم بتدريب وتوظيف السعوديين وزيادة حجم الاستثمار الأجنبي.
حقق "برنامج التوازن الاقتصادي" في بدايته نجاحات رائعة فأنشئت على سبيل المثال شركات تقنية ومصانع لتصنيع قطع الغيار وغيرها من الشركات والمصانع، التي بلغت نسب توظيف السعوديين فيها أكثر من 50% وفي تخصصات تقنية وفنية. شركة الإلكترونيات المتقدمة (Advanced Electronic Company) التي أنشئت عام 1988 ضمن برنامج التوازن الاقتصادي بلغت نسبة السعودة فيها أكثر من 70% منهم أكثر من 30% عمال فنيون و30% مهندسون، وتملك هذه الشركة اليوم خبرة دقيقة ومتخصصة في مجال الإلكترونيات، حيث باتت تقدم خدماتها للقطاع العسكري السعودي إضافة للمدني. وطبقا لأحد الأصدقاء المطلعين فإن هذه الشركة التي أطلقها شرط التوازن الاقتصادي ضمن عقود شراء طائرات الـF-15 من شركة بوينج وصلت اليوم إلى مرحلة متقدمة في مجال صناعة الإلكترونيات بحيث باتت الشركة تصنع أجزاء إلكترونية دقيقة لطائرات الـF-15 وكذلك الـF-16، علما أن المملكة لا تملك بالأساس طائرات F-16 ضمن أسطولها الجوي، وتعد هذه الشركة اليوم المصنع الوحيد في العالم خارج الولايات المتحدة الذي يقوم بتصنيع أجزاء من طائرات الـF-16.
قائمة الشركات والمصانع التي أنشئت ضمن برنامج التوازن الاقتصادي في بدايته متعددة ونجاحاتها في واقع الأمر غير مسبوقة، حيث إن كل واحدة منها أنشئت لخدمة قطاع أو غرض معين ونجحت في تطوير تخصص دقيق في مجالها يخدم أمرين في غاية الأهمية: توطين التقنية بأيدي كوادر بشرية وطنية، وإعادة توظيف جزء من الإنفاق الحكومي الخارجي لصالح التنمية الاقتصادية. لكن مقابل أمثلة النجاحات هذه فإن هناك صورة مغايرة للأسف للفرص الكبيرة التي أهدرناها.
طبقا لتقرير أصدرته مؤخرا شركة "ATKearney" للاستشارات بعنوان: "برامج التوازن الاقتصادي الخليجي: فرصة الترليون دولار" (GCC Defense Offset Programs: The Trillion-Dollar Opportunity)، فإنه بنهاية عام 2006 تم إنشاء 36 شركة في السعودية ضمن برنامج التوازن الاقتصادي بلغت رؤوس أموالها مجتمعة 4.5 مليارات دولار، وهو رقم ضئيل بالمقارنة مع حجم الإنفاق العسكري السعودي بين عامي 1988 و2006، الذي بلغ 150 مليار دولار، أي أنه كان يفترض أن يعود لنا ما يقارب من 45 - 55 مليار دولار من الاستثمارات المشابهة لما ذكر أعلاه في حال تطبيق شرط تعويض الـ35% من قيمة العقود. من جهة أخرى يشير التقرير إلى أن برنامج التوازن الاقتصادي خلق 6500 وظيفة بمعدل 120 - 150 وظيفة متقدمة لكل مليار دولار من قيمة العقود، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بمتوسط نسبة خلق الوظائف المتقدمة في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث تصل 750 - 2600 وظيفة لكل مليار دولار إنفاق.
يشير التقرير إلى أنه من المتوقع أن يصل الإنفاق العسكري لدول الخليج بين عامي 2013 و2025 حوالي ترليون دولار، سيكون 30% منها على الأقل نفقات رأسمالية للشراء، ومن ثم في حال تطبيق شرط التعويض (offset) بنسبة 35% من قيمة العقود فإن هذا سيعني إعادة استثمار ما يقارب من 105 مليارات دولار محليا لإنشاء شركات ومصانع متخصصة تنقل المعرفة وتوطن التقنية وتخلق وظائف متقدمة وتسهم في التنمية.
وبعيدا عن الإنفاق العسكري، فإن الإنفاق التنموي المدني على مدى السنوات القليلة الماضية أو السنوات القليلة المقبلة والذي من المتوقع أن يتجاوز إجمالا حاجز الترليون دولار في السعودية بين مشاريع بنية تحتية وإسكان ونقل وبتروكيماويات وصحة وتعليم واتصالات وغيرها، أين تقع هذه المشاريع ضمن برنامج التوازن الاقتصادي وأغلبها مشاريع مليارية تقوم بها شركات عالمية أجنبية. هل يتم تطبيق شروط التوازن الاقتصادي معهم؟ عقود مشاريع القطارات في المملكة والتي تعد واحدة من أضخم المشاريع هل تم ببساطة الرجوع لفكرة التوازن الاقتصادي المبتكرة لإجبار الشركات العالمية التي قدمت للعمل بالمشروع على إعادة استثمار جزء من قيمة العقود في إنشاء مصانع لقطع غيار ومستهلكات القطارات مثلا؟ هل فكرت وزارة الإسكان وهي تبدأ مشروع الإسكان الضخم بأن تشترط على الشركات الأجنبية العاملة معها أن تقوم بتوظيف سعوديين وتدريبهم ضمن اشتراطات العقود؟
إن الأمثلة كثيرة ولا تتعلق بجهة واحدة بل بكل الجهات الحكومية وكل المسؤولين فيها، الذين - للأسف – لا يزالون يفكرون من داخل الصندوق، بل وصندوق ضيق جدا لا يزالون يرفعون السواتر عليه من حولهم.