قلنا في حديث سابق إن المثل الشعبي يمثل تجربة العمر، حين يشتبك مع الواقع الحياتي كمقولة جاهزة، يتسق فيها المعنى مع واقع الحال في اختزال كلامي مكثف، منفتح على الحياة ومستلهم كوامن النفس البشرية، وفضاءات الروح واغتناء التأمل وخصوبة الفكرة، وعنوان الموضوع هو مثل شعبي جاء بصيغة تساؤل حار ولفظ مراوغ، تتبدى في حالة من التحبيط القولي والملفوظ المتبائس والخطاب المنكسر، هو سؤال منتزع من جوهر الأرض وفائض بهجتها واخضرارها الناعم، حين التفت ذلك الموجوع الشقي والمستكين إلى تلك الورقات اليانعة والمفعمة بسلال الثمر وغمغمات الفصول وفوح الغلال الوارفة، لترتعش في داخله زوابع التخاذل وتباريح المعاناة وعجاف الصبر، ليقول في ترجيع محموم وانكفاء حبيس وحلم عاقر، متى تتحول هذه الورقات الناعسة في الحقل إلى حنطة مطحونة ورغيف شهي، لترد عليه الأرواح المفروشة بالضوء والمصابيح، والعيون الطينية المكحلة بالطمي، والأظافر الصخرية النابتة من أكمام الأرض، يردون عليه حين يبدؤون نهارهم وانهمامهم قبل أن تستيقظ الطيور في أعشاشها، وينفض العشب المراهق من على أكتافه خصلات الندى، وتصغي دروب القرية إلى وشوشات الريح تجوس فوق قمصان الجبال وردهات العتمة، يطلقون حناجرهم الزهرية والمنسربة مع أول "غرب" يصعد من قاع البئر ليصب في "المشنة"، ويهتف بعدها ذلك الفلاح الأخضر بموعظته الكونية "عميت عين لا تصلي على النبي" فتهتز حوله سواقي الماء وعروق الشجر، ومداميك الحصون وأسراب العصافير، لا يهرم ولا يجف على شفاههم الشعر والغناء الجبلي، يسفحونه قطرة قطرة، يفكون جدائله في ليالي المسرات، يهدهدونه كمهر جموح، يدللونه كحوريات البحر، يغنون وهم يحرثون ويبذرون و "يدسمون ويقصبون"، يغنون وهم يحولون الأرض إلى "عذبات وعواند" ليتم سقيها وإرواؤها، يغنون وهم يحمونها، ثم يصرمونها، في قيظها وشتائها، ليتم دوسها "بالمدوسة" في الجرن، يطلقون أهازيجهم العذبة والشجية، وهم "يذرّون" مع الريح، ليفصلوا الحَب عن التبن "الحثا"، يخرجون زكاة حبوبهم قبل أن تدخل "مدافنهم" ومخازنهم، يشعلون أمسياتهم بالفرح الطروب:

"قال ابن عشقه ريت طفل ام ظبا ماغرني في مشيته وانتقاله.. فيما سلف وأنا بعصر الصبا ما همني ممشى طريقه ولو فات،

قال ابن عشقه وانت يا صاحبي ماحقن آهب قالة وانت قاله.. انا اعرفك فيما سلف كل ما جيتك على وعد ترحب ولو فات".

خلاصة القضية أنني سمعت هذه العبارة "العنوان" من أحدهم ذات مساء، وهو يتحدث عن مشاريع وزارة الإسكان في عسير ويقول: الهيئة العامة للإسكان لم تنفع، صندوق التنمية العقارية لم ينفع، وزارة الإسكان عاجزة "فمتى هذا الورق عيش؟" لأحصل على سكن قبل الموت، فقلت له: "كن محكوما بالأمل" يا صديقي كما يقول "سعد الله ونوس".