لقد سألت في آخر مقالي السابق، السؤال التالي: لماذا يتخلى بعض شبابنا عن الانخراط في عملية تنمية بلادنا، وافرة الخيرات ومتسارعة الخطوات، ويذهبون إلى أي موطن عربي أو إسلامي تندلع فيه نيران الحروب وينخرطون بلا هوادة في جحيم معاركها، وحتى مجازرها المتوحشة؟! مع أنهم ليسوا فقط شبابا وإنما شيب العالم يتمنون القدوم لبلادنا، لينالوا نصيبا من خيراته. وكذلك برغم كون شبابنا لم يتلقوا تدريباً وثقافة عسكرية، تؤهلهم أو تحرضهم للوثوب لمواطن الحروب المستعرة.

الجواب الذي أراه ماثلاً أمامي هو تمكن العقيدة الريعية من وجدان كثير من شبابنا، وتحريكها للاوعيهم القابع في دواخلهم، والدافعة قولاً وفعلاً إلى تصرفاتهم العدوانية المميتة لهم قبل غيرهم. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي العقيدة الريعية؟ وكيف تمكنت من وجدان كثير من شبابنا؟ الجواب هو أن العقيدة الريعية جزء من مسألة العقيدة الريعية الحياتية، التي تنتج جراء الاقتصاد الريعي في المجتمع والمتمثل بأحادية المصدر، إما الهابط من فوق الأرض "المطر" وإما النابع من تحت الأرض "المعادن الثمينة". والاقتصاد بشكل عام، بجميع أشكاله وأنواعه وأساليب رعايته وتحريكه، يؤثر بشكل مباشر وقوي وغير مباشر وخفٍ على تشكيل قيم ومفاهيم المجتمع. فهنالك عقيدة ريعية بسيطة وعقيدة ريعية مركبة.

العقيدة الريعية البسيطة تنشأ وتتكون في المجتمعات الصغيرة والبسيطة، بسبب شح مواردها الاقتصادية وعليه، قلة إنتاجها وهشاشة هياكلها الاجتماعية والسياسية ومحدودية علاقاتها بالآخر، سواء القريب منها أو البعيد المتجانس معها أو المختلف. والعقيدة الحياتية بشكل عام والريعية كذلك، لا يقتصر تأثيرها على العقيدة الدينية والتي هي جزء منها، ولكنه يمتد ليشمل بشكل أعم معظم المناحي العامة في الحياة المعاشة، مثل التربية والاقتصاد والاجتماع والسياسة وحتى يتخطاها ليشمل المخيال الشعبي بشقيه الأدبي والخرافي. والعقيدة الحياتية المعاشة، عبارة عن قيم ومفاهيم تشكل بمجموعها عقدا اجتماعيا منتقى ومنظوما بعناية، ليتواءم مع متطلبات المعطى الاقتصادي المتاح، سواء الريعي منها أو الإنتاجي.

أي بأن قيم ومفاهيم العقيدة بشكلها العام تفصل على مقاس المعطى الاقتصادي المحلي للمجتمع وتطرز حسب أدوات وآليات الأسلوب المعيشي له، سواء كان بسيطا أو متطورا "مركبا"، من أجل المحافظة أو تطوير المعطى الاقتصادي لديه. وكما ذكرت بأن هنالك نمطين لأسلوب إدارة الحياة المعيشية للمجتمعات، أسلوب خاص لإدارة المجتمع البسيط وآخر لإدارة المجتمع المتطور أو حسب تصنيف عالم الاجتماع الألماني دورخايم "المركب". وكل أسلوب ينبع من معطى المجتمع الاقتصادي نفسه، وعليه يتشكل أسلوب قيمه ومفاهيمه الحياتية المعيشية ومناشطه الاجتماعية بشكل عام. فالمجتمع البسيط تشيع فيه قيم التماثل وعدم احتمال الاختلاف في التنظيم أو الآراء والفكر ومعاداة كل جديد ونبذ كل مختلف معه أو عنه. وتسيطر على تفكيره المفاهيم الغيبية والاتكالية والخرافية وتقديس القديم فكراً كان أو فعلاً أو حتى أفراد وجماعات. فيما المجتمع المتطور "المركب"، تشيع فيه قيم التسامح والعدل والمساواة وهضم الاختلافات وتضامن مهني منسق، ولا يشعر أفراده بأي عداء في حال اختلفوا عن السائد، حيث مفهوم الحرية لديهم هو السائد. وهو مجتمع غير متجانس ومنتج ويعمل ويخطط لمستقبله وينسج علاقاته مع القريب والبعيد من أجل تنمية موارده والبحث عن أسواق لمنتجاته. وتسود فيه مفاهيم العقلانية والفردانية ويبحث ويرحب بكل ما هو جديد يفيده اليوم ويؤمن له مستقبله في الغد. ويتمثل المجتمع المتطور أو المركب بمجتمعات المدن الكبيرة والزاخرة بالإنتاج الاقتصادي المتنوع من صناعي وتجاري وخدمي، أي التي تعتمد على الاقتصادي الإنتاجي.

المجتمع البسيط يتمثل بمجتمع القبائل الراحلة والمستقرة وفي القرى والبلدات، ويعتمد اقتصاده على الرعي والزراعة البسيطة، وكلاها معتمد على ريع المطر ولذلك سمي اقتصادها بالريعي. مع التبادل التجاري المحدود مع الجوار من أجل التزود بما ينقصه من ضروريات حياته اليومية، من مأكل ومشرب وملبس. ولذلك فقيمه الحياتية صممت لتخدم أسلوب إدارة معيشته اليومية البسيطة والمحافظة عليها. حيث إن الشح الاقتصادي هو العامل المشترك في معاناة أفراد المجتمع البسيط وبنيته الاجتماعية متشابهه من حيث عامل القرابة أو الدم أو المعتقد، فالقضاء على الروح الفردانية من أجل تأطير الروح الجماعية عن طريق التأكيد على التلاحم والتكاتف الاجتماعي تكاد تكون هي السمة الغالبة فيه. ولذلك فقيم التماثل وعدم احتمال الاختلاف والغرباء عنه تشيع فيه وتصبح العصبية والتعصب هي الدارجة فيه، لكون هذه القيم والمفاهيم تخدم أسلوبهم المعيشي البسيط وتحمي عدم تبدد موارد اقتصادهم الريعي الشحيح.

حيث الحاضر لدى المجتمعات البسيطة جاف بموارده الاقتصادية الشحيحة، التي بالكاد تغطي حاجياتهم اليومية الضرورية، وتتحول عملية الإنتاج لديهم إلى عملية رتيبة ومملة ولذلك ومن واقع تجاربه، فالتفكير بتنميته من أجل المنافسة أو تطويره يصبح نوعا من الترف غير المرغوب لديهم، وهكذا يعيشون خارج حاضر يتلمسونه و بلا مستقبل يرجونه، حيث ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن أو سيكون. ومن هذا المنطلق، يعيشون على هامش العملية الإنتاجية الفاعلة في محيطهم المحلي أو المجاور، وعليه ترتبك لديهم مسألة الوجود الزمانية أو اللحظة المعاشة، فيهمشون الحاضر ويستحضرون بديلاً عنه الماضي وفي غياب المستقبل المنظور، يستحضرون عنه المستقبل اللا منظور.

في المجتمعات الريعية البسيطة، يتم إحلال الحياة الآخرة عوضا عن المستقبل، لتصبح هي الأمل والرجاء. ويتم إحلال الماضي محل الحاضر، حيث يكون الماضي بالنسبة لهم هو الدافع الأساسي إن لم يكن الوحيد الذي يعبرون به عن حالهم وكيانهم، ولو عن طريق النفخ فيه وتطهيره ورفعه لحالة المقدس، أو حتى العمل على تأويله من أجل أن يتواءم مع أسلوب حياتهم المعيشية. إذاً فقيم المجتمع البسيط الحياتية، عادة ما تأتي محافظة، لا تتعدى كونها أعرافا متوارثة، لا شيء مبتكرا فيها، من أجل المحافظة على مصدر رزقه الشحيح وعدم تبذيره والتفريط فيه، "إدارة الفقر"، ومن أساسيات إدارة الفقر هي توفير الحاضر، بالنكوص منه للماضي، وكبديل عن الفراغ اللا إنتاجي فيه وعليه عدم وضوح المستقبل المنظور له، يتم القفز عن مستقبله المنظور للمستقبل الغيبي اللا منظور المتمثل بعوالم دنيا الآخرة.

العقيدة الريعية البسيطة حركتنا عندما كنا مجتمعات قبائل وقرى وبلدات صغيرة، كنتاج لاقتصادنا الريعي "المطر". وتحركنا الآن العقيدة الريعية المركبة، كنتاج لاقتصادنا الريعي "النفط" ونحن نعيش بمدن مليونية.

ولذلك فشبابنا حسب قيمنا الريعية البسيطة والمركبة، يذهبون لمواطن الحروب بدافع العصبية والتعصب وليس بدافع الإنسانية. ويستبدلون أسماءهم بأسماء تاريخية "أبو الحارث وأبو المقداد وغيرها"، ويلبسون ملابس تاريخية "عمائم وجلابيب وغيرها"، ويغيرون أشكالهم إلى أشكال تاريخية "شعور ولحى كثة وطويلة"، كحالة نكوص من الحاضر للتاريخ وتمثيله الآن. وفي أمل الاستشهاد، للفوز بجنات النعيم بما تحتويه من خيرات، بدون أي جهد إنتاج خيري أو عطاء روحاني، وهي كذلك حالة قفز من المستقبل المنظور للمستقبل الأخروي اللا منظور. ويحل مكانهم في تنميتنا شباب قادمون من مجتمعات ذات اقتصاد إنتاجي لينعموا بفرص خيرات الإنتاج المتوافرة لدينا.