يتحدث كثير من الدعاة ورجال الدين عن مظاهر الفساد الأخلاقي في المجتمع مثل الكذب والنفاق والغش والرشوة وإيذاء الناس، وعن أسبابها المتمثلة في ضعف الوازع الديني وسوء التربية وانتشار المحرمات وتكالب الناس على الدنيا.

ومع احترامي وتقديري للجهود التي يبذلها الدعاة في سبيل محاربة الفساد وغرس القيم الأخلاقية في نفوس الناس، إلا أنهم أيضاً يسهمون في تفشي الظواهر السيئة للأخلاق في المجتمع! وهم كذلك أحد الأسباب الرئيسة التي أنتجت هذه المعضلات.

حاولت البحث في فلسفة الأخلاق في الخطاب الديني السائد، ووجدت أن القراءات والرؤى في هذا الإطار لا تكاد تخرج عن التمسك الحرفي بأحكام الفقه، والخلط بين آداب المعاملة والأخلاق، كما لا تقدم إجابات حقيقية عن سبب تنامي العنف والكراهية والتعصب وسوء الأخلاق، وربما تضمن الخطاب قيماً أخلاقية ولكن لا يتحدث عن ماهيتها.

صحيح أن بعض الدعاة يتحدث على سبيل المثال عن حرص الناس على أداء الشعائر التعبدية، والالتزام بالمظاهر الشرعية والاجتهاد في نوافل العبادات من صلاة وصيام وغيرها، وفي المقابل نجد الحقد والحسد والظلم والبغضاء والشحناء والتهاجر والتدابر والكذب والتدليس والغش والمخادعة وإخلاف الوعود ونقض وأكل أموال الناس بالباطل وخيانة الأمانة، والسؤال المطروح هنا: من الذي أوصل الناس إلى هذه الازدواجية؟.

فبعض الدعاة للأسف، أغفلوا وظائف العبادات، ولم يستطيعوا شرحها للناس، فليس هناك ربط واضح في الذهنية المجتمعية بين العبادات والأخلاق، فالمسلم يقرأ قول الله عزّ وجل: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)، ولكن لا يعلم أن الصلاة كعمل تعبدي تسهم في تقوية الأخلاق وتحرر الإنسان من العناصر السلبية، ويقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا"، وكذلك بالنسبة للصيام يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فالتقوى هنا تجسد حالة أخلاقية تعمل على تدريب وتحصين النفس من مزالق الأهواء والشهوات، وقد ورد حديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

هذا بالإضافة إلى إلغاء الرمزية أو التفسير الباطني لشعائر العبادات، لذا أصبح هناك انفصام بين العبادات والأخلاق في حياة المسلم، وأصبح الهدف أن يصلي ويصوم فقط، وليس وسيلة لهدف أو غاية أخلاقية، والأخطر من ذلك أن البعض يتوهم بأنه بمجرد ممارسة العبادات فإنه يشعر بأنه فوق مستوى القيم الأخلاقية وبلا مسؤولية.

الأمر الآخر، أن بعض الدعاة يطلبون من الناس الانقياد والانصياع إلى آرائهم، وعدم انتقادهم في ذلك، ويربطون آراءهم بالدين وليس بفهم البشري المعرض للصواب والخطأ، وبالتالي من ينتقدهم فإنه ينتقد الدين، الأمر الذي يؤدي إلى شعور الإنسان بعدم الأهمية والإحساس بالعجز وضيق الأفق، وبالتالي يرجع الإنسان في رؤيته الأخلاقية إلى ما يقوله هؤلاء الدعاة، وليس إلى وجدانه الإنساني، وتفويض قراراته النظرية والعملية إلى الآخرين، وعندما يشعر الإنسان بوجود تعارض أو تناقض بين وجدانه وما يقوله الداعية، فقد يتولد لديه إحساس بالذنب والخطيئة، وهذا ما يشعل تنور النفاق والرياء في واقع المجتمع.

يقرأ الدعاة على الناس، قوله تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)، ويتحدثون عن القدرة المالية والمادية للإنسان، ويهملون القدرة النفسية له، ويتوقعون من الجميع أن يكونوا على نمط واحد من العمل والسلوك، وهذه الرؤية انتقلت للأفراد أيضاً ناهيك عن الجزمية والجمود في النظر إلى الأمور (أنا على حق وغيري على باطل)، وفي ظل التغيرات التي يمر بها المجتمع، وكذلك تنامي الصراعات المذهبية والطائفية في العالم الإسلامي، والمفهوم الخاطئ لحديث "الفرقة الناجية"، ولدت العجب والغرور لدى البعض، وعدم التسامح وإصدار أحكام مسبقة على الآخرين.

وعلى هذا الأساس، أصبح المعيار الأخلاقي في التعامل مع الآخر يتمثل في وجوب تطابقه مع أحكام المذهب أو الفكر، ومن يكن هذا معياره، يكون مستعدا لسحق القيم الأخلاقية وتدميرها، بل قد يعتقد أنه يفعل ذلك في سبيل الله وأنه إنسان صالح مثواه الجنة!، وعليه أصبح الإنسان معجباً بأفكاره وعقائده لا بأعماله وسلوكياته.

بالإضافة إلى ما سبق، هناك إشكالية أخرى تستحق إلقاء الضوء عليها، وللأسف يسلكها بعض الدعاة، وهي مسألة تفسيق الآخر في سبيل إقصائه وإزاحته بطرق مختلفة الأمر الذي يربي الناس على كره أفراد البشر، فأصبح البعض لا يناقش ولا ينتقد الأفكار والنظريات بقدر ما ينتقد الأشخاص أنفسهم، فانتشر السب والشتم بين الناس.

الجميع يعلم ويردد بأن الصدق والأمانة والعدل والنصح من الأخلاق الحسنة، وإذا شاعت في المجتمع أمن الناس وحفظت الحقوق وقويت أواصر المحبة بين أفراد المجتمع وقلت الرذيلة وزادت الفضيلة، وإذا شاعت الأخلاق السيئة من الكذب والخيانة والظلم والغش فسد المجتمع واختل الأمن وضاعت الحقوق وانتشرت القطيعة بين أفراده، ومع ذلك قد لا نجد القيم الأخلاقية في واقع المجتمع بل النقيض منها وهناك من يقول إن المجتمع "يعيش أجواء الحداثة بدون أخلاقها"، التي تحترم الأنظمة والقوانين و"حرمة المال العام ورعاية حقوق الإنسان وحقوق المواطنة".

وأخيراً أقول لبعض الدعاة: إن الخطاب الوعظي والدعوي يتكرر على آذان الناس، دون تجسيد للقيم الأخلاقية في واقع سلوكياتهم، والجيل الجديد من الشباب يتساءل: لماذا أخلاق المجتمع سيئة؟ لماذا المجتمع يتحدث عن الأمانة والصدق، بينما ينتشر فيه الكذب والنفاق؟ فهل من إجابة؟ أم سنكتفي بأن هذا هو آخر الزمان!