تعد الكتابة والقراءة أهم المنجزات الإنسانية، التي فتحت أفاقا أوسع للإبداع، تغيرت معه موازين العالم بأكمله، ولهذا كان للثقافة وانتشارها دوره المؤثر في ريادة أمم، واختفاء وزوال أخرى على امتداد التاريخ، إذ لم تفلح تلك الأمم التي مارست وطبقت على الدوام سياسة حجب مواطنيها عن الاطلاع والمعرفة؛ لأنها صنعت عقولا تخشى التنوير وقيمته، مما سيهدد مصالح التيارات الفكرية الأحادية المسيطرة على مشهدها الاجتماعي والثقافي، فهي حريصة دوما على ألا تفتح للمستقبل أبوابا، وخسرت تلك الأمم مشاركتها في صناعة النسيج الإنساني والحضارة الأممية...!

أستحضر من ذاكرتي كيف كان وضعنا القرائي في فترة التسعينات الميلادية وما قبلها، وكيف كان أمر الحصول على نسخة من كتاب – رواية كان أم ديوان شعر أم كتاب فلسفة... إلخ ـ أمرا لا أتردد في وصفه بالمعاناة الحقيقية بمعنى الكلمة، وأسرد لكم من ذلك قصة حصولي على فرصة قراءة رواية "عرس بغل" للروائي الجزائري الطاهر وطار، التي تفضل علينا بها مشكورا صديقنا الروائي السعودي عبده خال في تلك الفترة، مصورة على ورق الطابعات (A4)، لتطوف فيما بعد على أكثر من صديق، وهي رواية ذات قيمة فكرية وبنائية عالية، لكنه لم يكن مسموحا بدخولها لأسباب ما، منها توجهها المنحاز إلى الفكرة الاشتراكية، وشخصية البطل ذات الصبغة الدينية، وفكرة إصلاح المجتمع من أكثر أماكنه قسوة وقذارة أخلاقية، المعروف أن حيوان البغل عاقر لا يُنجب، والطاهر وطار، إنما أراد الإمعان في السخرية من سطحية الوعي الاجتماعي بعمومه، ويقدم صورة غاضبة على النمطية التي تسيطر على تفاصيله، ويسخر وبشكل لاذع من شكل ومضمون الحراك السياسي العربي بكليته.

تخيلوا أن مثل هذه الرواية الرائعة في لغتها وخيالها وميكانيكية بنائها، كانت ممنوعة من التداول، ويصعب الحصول عليها، ومن عسير أستحضر كيف كان الأصدقاء أمثال الصديق أحمد التيهاني، يحملون نسخة عن رواية أو كتاب ما، ويذهبون إلى ذلك العامل السوداني في المكتبة بعد نهاية الدوام ليلا، ليصور لهم خلسة ذلك الكتاب، مقابل مبلغ معقول من المال.

اليوم أرقام وإحصاءات معرض الكتاب الدولي بالرياض مذهلة فعلا بالنسبة لي على الأقل، على الرغم من يقيني بأن الكثير يشاركونني ذلك، وتعكس حقيقة أن شيئا ما قد تغير بالفعل، وأن ذلك التغيير إلى الأفضل قطعا، إذ حين علمت أن به 900 دار نشر، مثلها 400 عارض من داخل المملكة و1300 من الخارج، وأن وزارة الثقافة والإعلام قد خصصت أربع صالات عرض رئيسة، إلى جانب صالة خامسة تساند بقية الصالات لاستثمار مساحة العرض، و25 موقعا للاستعلام، و40 جهاز استلام إلكتروني ذاتي تم توزيعها في مختلف صالات المعرض، هنا أقول إنني أمام تحول نوعي كبير لا محالة.

مما يدفعني للاستغراب حقيقة من شن بعض الأسماء المنتمية إلى الوسط الثقافي، وبعض الأسماء المحسوبة على تيارات فكرية منغلقة، على مواقع التواصل الاجتماعي، الهجوم تلو الآخر على طريقة وتنظيم وزارة الثقافة والإعلام لفعاليات معرض الكتاب الدولي! وهو المعرض الذي تقدم الوزارة من خلاله فرصة كبيرة للجمهور

بشرائحه كافة، للحصول على الكتاب وزيادة مساحة الاطلاع على أكبر قدر ممكن من المنجز والمنتج الثقافي على مستوى العالم، واتهام القائمين بالمسؤولية بالجبن تارة وقلة الحيلة تارة أخرى، خاصة فيما يتعلق بمنع بعض الكتب، وهنا أتساءل إذا كانت أميركا أو بريطانيا مثلا نظمتا معرضيهما للكتاب، هل ستسمحان بنشر كتب تمجد أفعال وتوجهات النازية وتمتدح هتلر؟! الجواب في ظني: لن تسمحا مهما كلف الأمر، ولذلك دوافعه وأسبابه قطعا، إذن دعونا لا نزايد على الثقافة والحرص على نشرها، دعونا لا نزايد على الوطنية والمواطنة، من خلال تبني البعض لقضايا مستوردة، ومشاريع تحاكي تقليد مشاريع أممية أخرى، هذا خزي من وجهة نظري، "وهياط ثقافي وديني" ليس له من واقع الحال شيء، إنني أشهد أن ما يحدث اليوم على مستوى القراءة والكتابة وتوفير مادتيهما، هو نقلة عظيمة لن يشعر بقيمتها إلا من كان يتسلل ليلا خلسة ليصور أوراق كتاب، أو من كان يقطع المسافات ليستعير نسخة من رواية يخبئها تحت ملابسه وهو عائد إلى منزله.