الفنون التي تباغتك بروح الأمكنة فيها، بتاريخها، ومكاسب فرحها، وامتداد مواجعها وغبنها، بكل عجين تناقضاتها، هي الفنون التي تلمسك وتدقّ أهميتها في ذاكرة من سيأتي. حين تسمع العراقي "سعدون جابر" فإن صوته يجول بك في بيوت العراق وأحيائها، ويجلس بك على نهريها، ويُشَمّمك رائحتها وطعم حكاياها، حتى وإن كنت لم تَرَ العراق في حياتك. لا بدّ أنكم سمعتم سعدون و"يا طيور الطايرة". العراقي سيسمعها للأبد.
في الرواية سيأخذك عمل مثل "الأشياء تتداعى" للنيجيري "تشينوا آتشيبي"، حتى ترى ما حدث في قرية "أوموفيا" في نيجيريا بأفريقيا أمام عينيك، أو في منامك. في السعودية، على اتساع جغرافيتها، وعدد قراها ومدنها وبواديها، وتفاصيل أمكنتها الهائلة، إلا أن الروايات التي حفرت في المكان قليلة، القرى كانت أكثر حظاً في هذه القلّة. ربما لأن القرى بصورتها وهويّاتها القديمة تمثّل مخرجاً مُغرقاً في الحنين للكاتب إزاء إحباطه تجاه تحقّق معنى المدينة وتصوّره المثالي لهذا المعنى، أو ربما عجزه. ومع أن المدن، مهما كان تشوه معناها، أوسع أفقاً وتنوّعاً ومغامرة في مخابئها، إلا أنها لم تحظ بالكثير في هذا الهاجس القليل. رواية "غراميات شارع الأعشى" حاولت فعل هذا. التقطت بدرية البشر شارعاً بحي المنفوحة في قلب الرياض، وسجلت صوراً لخباياه، ومن يقرأ الرواية سيجد أن ما كان، ثم ما حدث في ذلك الشارع، لم يكن إلا عيّنة لما كان يحدث في الوقت نفسه، في طول البلاد وعرضها، ما قبل وبعد حادثة الحرم 1979 ثم ما كان من تغاضٍ لاستفراد التطرّف الديني بالمجتمع، وخنقه لمعناه وتنوّعه وثرائه الإنساني وهويّته، والذي يبدو أن المرأة في نجد كانت أولى ضحاياه، قبل أن يمتد إلى المرأة في الخارطة كلها. يمكنك أن تجد هذا الشارع/ الحالة بقصص شبيهة، بعضها أقسى، في كل مدينة، في كل بيت.
نقْل المكان، بمختلف توصيفاته وإنسانه وحكاياه، في "غراميات شارع الأعشى"، كان رائعاً ويأخذك لتخيّله وخيالاته. تقول بدرية البشر في روايتها: "... مشت طويلاً حتى وصلت ظلال جدران السوق القائمة من طينٍ مطلي بالجصّ الأبيض، ودخلت سوقاً قديمة، لها سقفٌ مرتفع، وأرضها يعلوها ترابٌ وأوساخ. طرف السوق مفتوحٌ للهواء، ومتصلٌ بساحة كبيرة تتكوم فيها بضائع قديمة على الأرض. يتوزع السوق على جبهات مختلفة؛ طيورٌ في أقفاصها، وأقفاصٌ بلا طيور، وفي خلفية السوق هناك سوق الأشياء المستعملة والقديمة والرخيصة، يتنازع الناس فحصها وشراءها. يختلط الرجال مع النساء والباعة".