إن التنوع الفكري في الخطاب الثقافي السعودي ثراء وحاجة، أما التصنيف الفكري فهو انقسام وتحزب، وقد عرفت الساحة السعودية التنوع الفكري مبكراً، وكان هذا التنوع يحمل بعض إرهاصات الاختلاف حول العديد من القضايا لكن التنوع الثقافي في الآونة الأخيرة انقاد إلى حدة التصنيف والانحياز، كلٌ إلى فريق، وتخطئة أحدهما للآخر على نحو حاد، بحيث أصبح هناك أضداد وفرق وأحزاب وجماعة، ولم تعد الأنفس تحتمل هذا الاختلاف، ولم نعد نسمح للآخر المختلف معنا إلا أن يكون المختلف عنا، وصرنا من بعد نقسم الناس إلى ليبرالي وعلماني وسلفي وإخواني وسروري، وأنا لا أميل عادة إلى إلقاء اللوم واتهام الغير في قضايانا المحلية، ولست من الميالين إلى إحالة كل شيء إلى فكرة المؤامرة، وبالتالي فإنني أرى أن مغذيات التصنيفات الفكرية صادرة من منابعها المحلية، ومرد ذلك في ظني أننا لم نتعود على الحوار، ولم نتوطن على قبول الرأي الآخر؛ لأننا مجتمع أبوي يهاب الخروج على سطوة الأب في المجتمع، والأب هنا هو الوالد والمعلم والشيخ، ولهذا صار لدينا شخصية ظاهرة، وأخرى باطنة، وصارت وصرنا نهمس بقناعاتنا خفية في المجالس الخاصة.

حتى انكشف المستور عبر مغذيات التواصل الاجتماعي في تويتر -خاصة- وانشق سقف التعبير في حرية متمادية تصل إلى حد إيذاء الآخر والتشهير به وتم إقحام الخصوصيات عبر تصوير كل السوانح العفوية للأفراد ونشرها على الملأ عبر معرفات غامضة دون اعتبار لخصوصية الآخر.

إن مشكلة التصنيفات الفكرية في الآونة الأخيرة هي التسييس والتحزب الحاد على نحو جر إلى ما يمكن أن نسميه تعدد الولاءات، ومنبع ذلك هو توسع اهتمام المواطن بالحراك الذي في الجوار، مما أوقعنا في هذا المعترك التصنيفي الذي كلما تعمق، قاد إلى الانقسام، ولا شك في تأثير إيران ويديها الطويلتين على بعض التشظي والحيرة التي أصابت بعض مواطني المملكة ودول مجلس التعاون.

والحال كذلك مع طامة الربيع العربي التي جاءت لتكسر الجرة، خاصة مع ما حدث في مصر وسورية، ومنها توسعت التصنيفات وتكرست بشكل غير مسبوق.

إن انصراف المواطن إلى الاهتمام الكبير بقضايا الخارج هو من أسباب تفتيت اللحمة الوطنية، وما زاد من ذلك هو الانفجار المعلوماتي وثورة الوسائط الحديثة لوسائل التواصل الاجتماعي التي صارت ساحة للحوار الصادق والكاذب والمتزن والمتشنج، وصار المواطن يستقي معلوماته من هذه المصادر بحسبما يرده على "تويتر"، أو "الواتس أب"، وهي الوسائط التي يتم تداولها بين الناس بسرعة قياسية دون تمحيصها والتأكد من مصداقيتها.

لقد صار المغرد هو رئيس التحرير وصار "تويتر" هو وكالة الأنباء، ومن هنا ينبع دور النخب الوطنية المخلصة في الدخول لهذا المعترك، وردع المتخاذلين الذين يرجمون الناس بتهم التكفير والتخوين ويروجون الأراجيف والأكاذيب، كما أن مسؤولية الإعلام الرسمي التي صارت محدودة إنما تكمن في سرعة بث الحقيقة بلا مواربة في حالة انتشار أي إشاعة يمكن لها أن تثير حالة من النزاع والشقاق.

أخيراً، أميل إلى الانكفاء على الداخل والقطرية والتقليل قدر الإمكان من تعلقنا كمواطنين في الشأن الخارجي وتحزبنا مع الغير، وأتطلع لأن نهتم بشؤوننا الداخلية بحيث تصبح مناط سجالنا بما يخدم تطلعاتنا التنموية.