قبل مئة عام وقف شاعر النيل العملاق "حافظ إبراهيم" - رحمه الله -، على مسرح مدرسة البنات ببورسعيد ليقول: "كم ذا يكابد عاشق ويلاقي.. في حب مصر كثيرة العشاقِ"، وليضمنها أشهر بيت قيل عن "الأم" ليصبح مثلا شرودا على كل شفة ولسان: "الأم مدرسة إذا أعددتها.. أعددت شعبا طيب الأعراق"، ولكن الزمن الرديء هدم الفسحة والمعنى والنموذج والدلالة للأم، هي لم تتغير فما زالت على عرش أمومتها، بكل أفراحها وأحزانها وعذاباتها، بكل عواطفها الجياشة المسربلة بالدمعة والضحكة والوجع المخبوء في محارة روحها حد الهلاك، بكل مغالبة الضيم والجحود والنكران من بعض الأبناء، ولكن الخبر الذي نشرته "الوطن" في صفحتها الأخيرة يوم الأربعاء الماضي، حول منح الراقصة المصرية "فيفي عبده" لقب الأم المثالية، من نادي الطيران المصري، أخل بالتوازن المجتمعي وأسقط مفهوم "المثالية"، وعصف بالمعنى النفسي والمعرفي للأمومة وعبقها، وصادر ذلك التجسيم المضمخ بالطهارة والعفة والتضحية، ورغم هذه الرؤية المضيئة للأم فقد توالد وتناسل شعراء يعبرون عن فرحتهم وإعجابهم بالسيدة "فيفي عبده"، ويشيدون بحصولها على هذا التكريم، وذلك في الحفل الراقص الذي أقامته لهذه المناسبة، يقول أحدهم معارضا قصيدة حافظ إبراهيم: يا بنت عبده أطربينا مثلما.. طرب الغريب بأوبة وتلاقي، فالرقص إن لم تكتنفه "شمائل".. تعليه كان مطية الإخفاقِ، لا تحسبن الرقص ينفع وحده.. ما لم يتوج هزه بخلاقِ، وهنا يرى ويحسم الشاعر أن الشمائل والفضائل هي التي حملت بنت "عبده" إلى هذه المثالية، مع مرجعيتها الرقصية، ويؤكد الشاعر الآخر المشارك في الأمسية ومن على منصة البوح، أن فيفي قد أسكتت وألجمت كل خصومها والناقمين على مشروعها الحضاري فهي: تلهو وتلعب بالعقول كأنها.. في الرقص مثل الخائن السراقِ، تبدي وتكشف للخلائق ساقها.. بالرقص طوع الأصفر البراقِ، ويشيد ثالث الشعراء بسطوة هذه الأم باذخة الإغراء، مفرطة النجاح، والقادرة على استنزاف العقول وقض المضاجع، وإلهاب المخيال حين قال: في وسطها خصر يمد حباله.. سما وينفثه على العشاقِ، من لي بتربية النساء كمثلها.. فالرقص يمنع علة الإخفاقِ، الأم راقصة إذا أعددتها.. أعددت جيلا دائخ الأعراقِ.
لا أعرف تفسيرا للمعايير التي اعتمدتها لجنة الاختيار، ليتوجوا ويطوقوا "فيفي عبده" بهذا التكريم الساخر والعبثي والمتهافت، ولكني أنتظر منهم رفع الإهانة عن الأم وإعادة وقارها، وتجلياتها وبياضها وتعزيز مكانتها وجدوائية احترامها، وتقديرها ورفض الاختلال المهين في الثوابت والمفاهيم الفطرية والإصغاء إلى حافظ إبراهيم وهو يقول: فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا.. فالشر في التقييد والإطلاقِ، ربوا البنات على الفضيلة إنها.. في الموقفين لهن خير وثاقِ، وعليكم أن تستبين بناتكم.. نور الهدى وعلى الحياء الباقي.