تناولت موضوع العقيدة "الريعية" في مقالين سابقين، كجزء من سياقي موضوعي المقالين. والآن وبعد أن طلب مني البعض إفراد مقال خاص بموضوع العقيدة الريعية، ماهيتها وأسبابها وتداعياتها المحتملة، كوني أول من طرحها للنقاش، سأتناول في مقالي هذا مسألة العقيدة الحياتية والتي تعد العقيدة الريعية فرعا منها. حيث عندما طرحت موضوع العقيدة الريعية للمرة الأولى، طرحتها في سياق تداعيات المشهد المحلي التجييشي للمشاركة في مواطن الذبح والقتل خارج المملكة واستغلاله من قبل الحركات الجهادية التكفيرية، المحلية منها والإقليمية والدولية. ولم أتطرق فيها لتأثيرها على المشهد الحياتي لدينا بشكل عام.
العقيدة بمعناها العام هنا، هي مجموعة القيم والمفاهيم المحسوسة وغير المحسوسة التي تسير الحياة وتوجهها سواء عن طريق الوعي بها أم عدمه. والعقيدة العامة لا يقتصر تأثيرها على العقيدة الدينية والتي هي جزء منها، ولكنه يمتد ليشمل بشكل أعم معظم المناحي العامة في الحياة المعاشة، مثل التربية والاقتصاد والاجتماع والسياسة، وحتى يتخطاها ليشمل المخيال الشعبي بشقيه الأدبي والخرافي. والعقيدة الحياتية المعاشة، عبارة عن قيم ومفاهيم تشكل بمجموعها عقدا اجتماعيا منتقى ومنظوما بعناية ومفروضا على المجتمع من قبل النخبة الاجتماعية المسيطرة، ليتواءم مع متطلبات المعطى الاقتصادي المتاح. أي برغم كون العقيدة الحياتية المعاشة مفروضة أم متفقا عليها، كما في المجتمعات الديموقراطية، إلا أنها في النهاية واحدة، من حيث كونها تصب في صالح الأسلوب المعيشي الأنسب للمجتمع أو هكذا هي كذا أو يجب بأن تكون كذا.
إذن، فالعقيدة الحياتية بما تشتمل عليه من قيم ومفاهيم، وجدت لتخدم الأسلوب المعيشي للمجتمع. مرة أخرى، إذن العقيدة الحياتية منظومة حسب معطيات الاقتصاد المحلي للمجتمع ومطرزة على مقاسه، من أجل تطويره أو المحافظة عليه. وهنا تكمن خطورة عدم الوعي بعقيدة المجتمع الحياتية والقبض على مفاتيحها ومغاليقها، من أجل التحكم بها، في حال تبدل أو تغير المعطى الاقتصادي للمجتمع بفضل ثروة تطرأ عليه من هنا أو هناك، من دون جهد مباشر منه، حيث أسلوب معيشته سيتبدل، ومن الممكن جذرياً، ينقلب رأساً على عقب، ليتواءم مع المعطى الاقتصادي الجديد.
حيث تصبح عقيدة المجتمع الحياتية ما قبل حلول الثروة الجديدة غير صالحة، أو بالمعنى الأدق، منتهية الصلاحية، وعليه يجب السعي لتبديلها أو عمل تحسينات جذرية عليها، لتتواءم مع معطاه الاقتصادي الجديد وإلا تصبح عقيدته الحياتية هي عدوته اللدودة. حيث عقيدته الحياتية القديمة والتي حيكت من أجل تسيير وتوجيه أسلوب معيشته القديمة، ستصطدم مع أسلوب معيشته الحياتية الجديدة وتعيقها، إن لم نقل تؤدي بها لعواقب وخيمة، لا يحمد عقباها. هذا إذا وضعنا بعين الاعتبار، كون القيم الحياتية ما هي إلا منظومة قيم إدارية لإدارة أسلوب حياة المجتمع بكل مناشطه الحياتية والمعيشية، ينظمها خيط واحد لتصبح عقدا اجتماعيا، على أساسه أو ضوئه تتم إدارة المجتمع لخدمة موارده الاقتصادية إما من ناحية تنميتها وتطويرها وإما من ناحية الحفاظ عليها.
هنالك نمطان لأسلوب إدارة الحياة المعيشية للمجتمعات، أسلوب خاص لإدارة المجتمع البسيط وآخر لإدارة المجتمع المتطور أو حسب تصنيف عالم الاجتماع الألماني دورخايم "المعقد"، وكل أسلوب ينبع من معطى المجتمع الاقتصادي نفسه، وعليه يتشكل أسلوب قيمه الحياتية المعيشية ومناشطه الاجتماعية. فالمجتمع البسيط تشيع فيه قيم التماثل وعدم احتمال الاختلاف في التنظيم أو الآراء والفكر ومعاداة كل جديد ونبذ كل مختلف معه أو عنه. وتسيطر على تفكيره المفاهيم الغيبية والاتكالية والخرافية وتقديس القديم فكراً كان أو فعلاً أو حتى أفراداً وجماعات. فيما المجتمع المتطور "المعقد"، تشيع فيه قيم التسامح والعدل والمساواة وهضم الاختلافات وتضامن مهني منسق، ولا يشعر أفراده بأي عداء في حال اختلفوا عن السائد، حيث مفهوم الحرية لديهم هو السائد. وهو مجتمع غير متجانس ومنتج ويعمل ويخطط لمستقبله وينسج علاقاته مع القريب والبعيد من أجل تنمية موارده والبحث عن أسواق لمنتجاته. وتسود فيه مفاهيم العقلانية والفردانية ويبحث ويرحب بكل ما هو جديد يفيده اليوم ويؤمن له مستقبله في الغد.
المجتمع البسيط يتمثل بمجتمع القبائل الراحلة والمستقرة وفي القرى والبلدات، ويعتمد اقتصاده على الرعي والزراعة البسيطة، والتبادل التجاري مع الجوار من أجل التزود بما ينقصه من ضروريات حياته اليومية، من مأكل وملبس وأدوات منزلية وحرفية بسيطة. ولذلك فقيمه الحياتية تخدم أسلوب إدارة معيشته اليومية البسيطة. حيث إن الشح الاقتصادي هو العامل المشترك في معاناة أفراد المجتمع البسيط وبنيته الاجتماعية متشابهة من حيث عامل القرابة أو الدم أو المعتقد، فالقضاء على الروح "الفردانية" من أجل تأطير الروح الجماعية عن طريق التأكيد على التلاحم والتكاتف الاجتماعي تكاد تكون هي السمة الغالبة فيه. ولذلك فقيم التماثل وعدم احتمال الاختلاف والغرباء عنه تشيع فيه وتصبح العصبية والتعصب هي الدارجة فيه، لكون هذه القيم والمفاهيم تخدم وتحمي أسلوبهم المعيشي البسيط.
وحيث الحاضر لديهم جاف بموارده الاقتصادية الشحيحة والتي بالكاد تغطي حاجاتهم اليومية الضرورية، إذن، فالتفكير بتنميته يصبح نوعا من الترف غير المطلوب، وهكذا لا مستقبل يرجونه، حيث ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن أو كان. ولذلك يتم إحلال الحياة الآخرة عوضا عن المستقبل، لتصبح هي الأمل والرجاء. ويتم إحلال الماضي محل الحاضر، حيث يكون الماضي بالنسبة لهم هو الدافع الأساسي إن لم يكن الوحيد الذي يعبرون به عن حالهم وكيانهم، ولو عن طريق النفخ فيه وتطهيره ورفعه لحالة المقدس، أو حتى العمل على تأويله من أجل أن يتواءم مع أسلوب حياتهم المعيشية. إذن فقيم المجتمع البسيط الحياتية، عادةً ما تأتي محافظة، لا تتعدى كونها أعرافا متوارثة، لا شيء مبتكرا فيها، من أجل المحافظة على مصدر رزقه الشحيح وعدم تبذيره والتفريط فيه. وهذا ما أسميته في مقالات سابقة بـ"إدارة الفقر".
أما المجتمع المتطور "المعقد" فهو مجتمع المدينة الكبيرة ذات الموارد المتعددة والمتشعبة والوفيرة وذات التنوع السكاني العرقي والعقدي، فتبني وتشكل عقيدتها الحياتية على أساس تنمية وتطوير مواردها ومنتجاتها الاقتصادية، لتنافس بها المدن القريبة والبعيدة عنها. ولذلك فهي تنظم عقد قيم ومفاهيم عقيدتها الحياتية من أجل أن تتواءم مع عملية تنميتها الاقتصادية وتطويرها وعليه الاجتماعية والعلمية والقانونية. وقيم ومفاهيم المدينة، هي ما نسميه بقيم المجتمع المدني، أي قيم المجتمع المتطور وليس البسيط، والمتمثلة بقيم العدل والمساواة والحرية وسيادة القانون وتعزيز النزعة الفردية على حساب النزعة الجماعية. وعليه يكون الحاضر هو الشغل السائد للمجتمع المدني، حيث المنافسة والعمل الجاد والدؤوب الذي يغمسها في حاضرها لدرجة انشغالها عن استحضار ماضيها، بشكل مجاني. وكذلك همها المستقبلي يشغلها أكثر من أن يجعل الآخرة هو همها وشغلها الشاغل عن العمل الحياتي المتقن والجاد. وعليه فتنمية اقتصاد الوفرة يعتمد على قيم الانفتاح لا المحافظة من أجل تنميته وتطويره. وهذا ما أسميته في مقالات سابقة بـ "إدارة الوفر". إذن، لماذا يترك شبابنا الانخراط بعملية تنمية "الوفر" لدينا وينفرون لمواطن الحروب؟ الجواب سيأتي.