تروج بكافة بلدان المنطقة نظريات المؤامرة بمعدلات غير مسبوقة، ولست بصدد التحقق من مدى جديتها، فما يعنيني هو الركون باسترخاء عقلي للتفسيرات التآمرية، لإعفاء أنفسنا من مسؤولية تهيئة مناخ مهد الطريق للمؤامرات التي لا أجادل في وجودها، وملابسات استخدام بعض أبناء الوطن كعملاء، سواء بعلمهم، أو عبر عمليات "البرمجة العقلية"، التي تضافرت فيها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، لصناعة موجات الغضب، وتسابق المُنظّرين على تنوع مشاربهم لتبريرها، من أقصى اليمين الديني المتطرف، لأكثر التنظيمات اليسارية راديكالية لنتحول لمجرد أدوات في "لعبة أمم" كبرى لا ننكرها.
وبالعودة للتاريخ قليلا، وتحديدا في 30 سبتمبر 1946 نقرأ بالعدد "651" لمجلة "الرسالة" المصرية الشهيرة حينذاك، مقالا لعميد الفكر "التكفيري" سيّد قطب بعنوان "مدارس للسخط" وورد فيه: "سأظل ساخطا، ولو وكل إلي الأمر لأنشأت ضعف المدارس التي تنشئها الدولة لأعلم فيها الشعب شيئا واحدا وهو السخط، ولو وكل إلي الأمر لأنشأت مدرسة للسخط على هذا الجيل من رجال السياسة، ومدرسة للسخط على الكتّاب والصحفيين الذين يقال إنهم قادة الرأي، ومدرسة للسخط على الوزراء".
ويواصل قطب خطاب تأجيج الكراهية بقوله: "سأؤسس مدرسة للسخط على محطات الإذاعة، ومدرسة للسخط على الصحافة الداعرة التي تُسمي نفسها "صحافة ناجحة"، وأخيرا مدرسة للسخط على هذا الشعب الذي يسمح بكل هذه "المساخر" ويتقبل تلك الأوضاع دون أن ينتفض فينبذ هؤلاء وأولئك جميعا".
وإذا كان قطب "الأب الروحي" لكافة التنظيمات الإرهابية بأطروحاته الشهيرة، فهناك في الجانب الآخر حركات يسارية راديكالية كالثوريين الاشتراكيين بمصر، الذين يدعون صراحة لتدمير مؤسسات الدولة، ورغم ضآلة حجم الفصيل شعبيا لكن خطورته تكمن في خبراتهم بالحشد والتعبئة وإشعال مشاعر الغضب، وتلقيها التمويل من التنظيم الدولي للإخوان، بعدما كانوا يتقاضون أموالا ضخمة من المنظمات الأميركية والأوروبية، وهذا وضع عبثي حين يدعم الغرب كيانات شيوعية راديكالية، وتمولهم حركات دينية رغم الخلافات الجذرية معهم مما يؤكد أن الصراع السياسي الراهن تجاوز المعتقدات.
ووفقا لمعلومات رصدتها أجهزة سيادية مصرية، فقد أنفق التنظيم الدولي للإخوان منذ عزل الرئيس السابق محمد مرسي نحو ثلاثة مليارات دولار لنشر الفوضى، ووجهوا قدرا منها لهؤلاء اليساريين الفوضويين ممن يعتنقون "الأفكار الأناركية" الداعية لتخريب مؤسسات الدولة، انطلاقا من رؤيتهم بالحرية الفردية ورفض وجود سلطة عامة لهذا يروجون لشعار "الثورة مستمرة" الذي يرفعه الشباب الساخط دون وعي بجذوره وملابساته.
وإذا كان مفهوما أن تتبنى منظمات الإسلام السياسي ـ التي اختارت العنف سبيلا بعد فشلها سياسيا ـ تغذية مشاعر الغضب بشتى الطرق لتوجّهها لخدمة أهدافها، لكن حكمة التاريخ علمتنا أن الطريق للديموقراطية ليس واحدا، والمؤكد أنه ليس من بينها الممارسات الإرهابية، فما حدث في باريس عام 1789 وفي موسكو عام 1917 وفي طهران عام 1979 كلها باءت بالفشل في تأسيس نظم ديموقراطية رغم إسقاط أنظمة استبدادية، وكانت نتيجة كافة هذه الانتفاضات أنها أفضت إلى الفوضى ووصلت أحيانا للاقتتال الأهلي، وبعضها أعاد إنتاج أنظمة أسوأ من تلك التي ثارت عليها.
في الجانب الآخر من المشهد الدولي، فربما كان الإنصات لصراخ الغاضبين دون استخفاف، يمكن أن يغير مسار التاريخ، فهؤلاء الذين قمعتهم أنظمة الاستبداد طويلا قبيل اشتعال غضبهم، لأمكن احتواء الموقف، فمثلا كان بوسع الملك جورج الثالث تجنب الثورة الأميركية، لو استمع شكاوى الغاضبين، فالثورة الأميركية لم تمهد للحرية فحسب، لكنها استغرقت 80 سنة من ممارسات الرّق، والحروب الأهلية الدامية، لتتبلور الجمهورية المدنية بعد نحو قرن، حينما ترسخت حقوق المواطنة للرجال، دون النساء.
وتتواتر معلومات مفادها أن تقديرات أجهزة الاستخبارات الأميركية والأوروبية لنتائج ما يُعرف بثورات الربيع العربي، التي يُفترض أنها اندلعت لتحقيق أهداف محددة، لكن التحولات الدرامية لم تؤسس لأنظمة مستقرة ولا لمجتمعات مدنية متماسكة، بل على النقيض خلفت الفوضى المُنفلتة وغياب القانون وتلاشي السلطة المركزية، كما يحدث في ليبيا وسورية واليمن وغيرها، وأصبحت تُشكل مناخا إقليميا ملغوما و"خارج السيطرة" لهذا نصحت الأجهزة صنّاع القرار الأميركي وحلفائه، بمحاولة احتواء العواقب السلبية لأزمات أسهمت بصناعتها، وستكلف الجميع فواتير باهظة، لأن تحقيق هدفها بإعادة تشكيل نظام إقليمي وفق حساباتهم باء بالفشل، وأفضت لاحتقانات وإعادة تشكيل خرائط التحالفات، وسيتحمل الغرب قدرا كبيرا من نتائجها الوخيمة لحماية مصالحه، سواء بالمنطقة، أو حتى داخل بلدانه، حيث يعيش ملايين العرب والمسلمون.
الآن، وفي هذه المنطقة المنكوبة من العالم تبدو مهمة استخلاص دروس التاريخ للثورات صعبة، وإذا كانت جماعات الإسلام السياسي استثمرت الغضب بضخ جرعات هائلة للتحريض والكراهية، لاعتقادها بأنها باتت تمتلك قنبلة تفجرها حينما ترغب، فإن مواجهة ذلك الخطر لن يتحقق إلا بترسيخ دولة المؤسسات وسيادة القانون، لتهيئة مناخ التعايش المشترك، وهذه مهمة وعرة، لكنها ليست مستحيلة، والطريق للاستقرار والازدهار أكثر وعورة، لكنه خيارنا الوحيد.