ما الذي سيُضيفه مقال كهذا يُنشر بعد أسابيع من رحيل "الاستثناء" غازي القصيبي، هذا مع الأخذ في الاعتبار طبعاً الكم الهائل وغير المسبوق من المقالات والأخبار والآراء التي ضختها ومازالت المؤسسات الصحفية الورقية والرقمية السعودية والعربية والأجنبية، إضافة إلى البرامج والريبورتاجات والاستطلاعات التي أفردتها الوسائل الإعلامية المختلفة عن الراحل الكبير. بسبب هذا السؤال أو التساؤل المنطقي، ترددت كثيراً في الكتابة عن هذا الحدث المهم الذي سيطر تقريباً على المشهد السعودي العام، بل لا أبالغ إذا قلت إن صداه الواسع قد تعدى العالم العربي، فضلاً عن المحيط الخليجي. وبالفعل صرت أبحث عن فكرة أخرى أصافح بها القارئ العزيز، ولكن كل محاولاتي الدؤوبة باءت بالفشل الذريع، كنت في كل مرة أفقد الرغبة والحماسة لمواصلة الكتابة، فيبدو أنني لم أستطع التحرر من أسر هذا الإنسان الكبير، حتى وهو الآن في العالم الآخر، وأحسبه إن شاء الله في سعادة أبدية لا يُعكر صفوها جاهل هنا أو حاسد هناك. كم كنت سأشعر بالعار والخجل لو أنني استسلمت لتلك القناعة الساذجة ولم أرصع سجلي الصغير بهذه الخاطرة المتواضعة عن هذا الرمز الكبير الذي ساهم وبشكل كبير في تشكيل وعي وثقافة وذائقة الجيل الذي أنتمي له. لقد تعلمنا ومازلنا من مدرسته الرائدة الكثير الكثير، شعراً وأدباً وثقافة ووطنية وسلوكاً والتزاماً وصلابة.
غازي القصيبي، الإنسان والشاعر والأديب والمثقف والروائي والأكاديمي والمسؤول والوزير والسفير ورجل الدولة، حزمة كبيرة من الألقاب الرنانة التي سعت للظفر بهذا "الغازي" الفريد الذي قل أن تجد له نظيرا. لقد حباه الله عز وجل بقدرة هائلة على اقتحام تلك العوالم المتعددة والمتجددة، وكان مبدعاً ومدهشاً ومتفرداً في كل منها.
تشرفت بلقاء الراحل الكبير عدة مرات، وكنت في كل مرة أزداد إعجاباً ودهشة وحباً لهذه الشخصية الأخاذة التي تتمتع بنجومية طاغية، لا نراها عادة إلا في عالم المشاهير العالميين كنجوم السينما والغناء والرياضة والسياسة. وقبل عام ونصف تقريباً، تلقيت دعوة كريمة من الدكتور علي الغفيص محافظ المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني لحضور حفل تخرج عدة مئات من المتدربين من شباب الوطن بالمنطقة الشرقية وذلك برعاية وحضور معالي وزير العمل الدكتور غازي القصيبي. ليلة لن تمحى من الذاكرة، خاصة لأولئك الشباب اليافعين الذين سحرتهم كلمات وتوجيهات وأمنيات هذا الأب الحاني الذي يتوسطهم في صورة تذكارية جميلة لن يهتموا كثيراً بتعليقها في صدر المجلس، لأنها قد حُفرت جيداً في تلك القلوب الطرية التي ستفتخر يوماً بأنها تحتفظ بصورة حقيقية لرجل حقيقي في هذا الزمن يُدعى غازي القصيبي.
وشخصياً، مازلت أحتفظ بكل فخر وسعادة بخطابي شكر أرسلهما لي، وقد ضمنهما يرحمه الله بعبارات الود والتشجيع والإطراء، وتلك عادة ينفرد بها يرحمه الله، ويحتفظ الكثير من الإعلاميين والكتاب والصحفيين بتلك الخطابات الرقيقة التي دأب على إرسالها لكل من يُحسن الظن به، حتى وإن اختلف معه، فمعياره الحقيقي ـ كما أكد أكثر من مرة ـ الحس الوطني الذي يتمتع به الكاتب أو الإعلامي، أما غير ذلك فيمكن إصلاحه أو النقاش حوله.
الكتابة عن الراحل الكبير تحتاج إلى مساحات واسعة، فما قدمه من إنجازات وإبداعات طيلة خمسة عقود لا يمكن اختزالها في تلك المقالات والبرامج والأخبار التي عُدت سلفاً منذ عدة شهور، خاصة حينما ساءت حالته أكثر من مرة، وتناقلت بعض وسائل الإعلام ـ لاسيما غير الموثوقة ـ خبر وفاته عدة مرات. فغازي القصيبي، رجل دولة من طراز نادر، ومثقف حقيقي لا مثيل له، بل صاحب مدرسة إنسانية وحضارية متفردة، فلا أقل من أن توثق هذه التجربة الاستثنائية لهذه الشخصية الفريدة، سواء بعمل دراسات وأبحاث ورسائل جامعية أو بإصدار عدة كتب أو بعمل مجموعة من الأفلام الوثائقية والنقدية أو باستحداث جائزة سنوية باسم الفقيد الكبير، وكم سيكون رائعاً حقاً لو وضع اسم هذا الراحل الكبير على أحد الصروح العلمية أو الثقافية الكبرى تخليداً لمسيرة العطاء والإبداع والوطنية لهذا الرمز السعودي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
وأخيراً، ترجل الفارس النبيل عن جواده، ومضى مطمئناً إلى حياته الأخرى. وبهذا الفصل الميلودرامي الأخير، تنتهي فصول تلك الرواية الطويلة والمثيرة التي اسمها: غازي القصيبي.