ما إن يبدأ معرض الرياض للكتاب، حتى تبدأ معه الأسئلة، ينتهي المعرض ولا تزال الأسئلة تتوافد، علامات تعجب تتكرر عند كل نقاش يدور حول المعرض. ما الذي يُخيفهم في المعرفة؟ لماذا كل هذا الخوف والتخويف من القراءة؟ والخوف على ماذا بالضبط؟ لماذا الركض بهدف المنع والحجب والمصادرة؟ لماذا الوصاية؟ هل الكتاب فعلا يُخيف؟ أم يُراد له أن يكون مُخيفا؟ أم هي عملية تجهيل تبدأ مع بداية ارتفاع الوعي؟ لماذا المحاولات الدؤوبة لخلق وهم في عقول الجميع بأن مبادئنا وثوابتنا وعاداتنا وتقاليدنا هشة جدا ولن تصمد أمام كتاب؟ وماذا كانت تصنع المساجد والخطب والمواعظ حتى نخاف كل هذا الخوف؟ ماذا عن الإسلام؟ لماذا يُراد لنا أن نقتنع بأنه سيترنح أخيرا أمام كتاب؟ ولماذا العزف على وتر الأمن وبأنه سيختل حين نقلب صفحات الكتاب رغم تآخي الجميع؟
أليست لدينا ثقة في مبادئنا وثوابتنا؟ لنثق إذًا في ديننا أو في أنفسنا وهذا أضعف الإيمان، لأننا بكل هذا الخوف من الكتاب نعطي انطباعا سيئا بأننا نخاف جدا، ولا نثق في أنفسنا أبدا، وأننا حين نمارس الوصاية على خيارات بعضنا البعض، فهذه دلالة واضحة أن بعضنا ما عاد يثق أبدا في بعضنا الآخر، وأن حالنا مع الوصاية وكل هذا الحجب والمنع والمصادرة، كحال الذي يتقي شر العاصفة بيديه، سيرتد كفه إليه مرارا قبل أن تتقاذفه العاصفة، وها نحن رغم وجودنا في منتصف سيل معلوماتي جارف ما نزال نمارس الوصاية والمنع والمصادرة من باب الوقاية!.
أطفالنا منذ نعومة أظفارهم يتعاملون مع مختلف أنواع أجهزة التقنية بكل سلاسة، وعن طريقها يبحرون إلى كل المواقع بلا استثناء ونحن لا نزال نعتقد بأن المنع حل! شبابنا وفتياتنا مبتعثون في كل مكان، وينهلون من شتى الثقافات، ونحن نريد إقناعهم بأن في الوصاية خيرا! الفرد فينا يستطيع بضغطة "زر" أن يطلع على جميع محتويات أضخم مكتبة بكل حرية وأريحية، ولا نزال نعتقد بأن مجرد معرض للكتب من شأنه أن يزحزح كل مبادئنا وثوابتنا!
هل يدرك الأوصياء الذين يقررون ما يقرؤه الآخرون، وما لا يقرؤون، حجم التغير الثقافي الذي يشهده العالم أجمع؟ هل يدركون أن الوصاية فعل ماض ما عاد له محل من الإعراب؟، هل يعلمون مقدار الضرر الناتج عن الجهل، وبأن أعلى درجات الضرر الناتج عن المعرفة أخف بدرجات من أدنى أضرار الجهل؟
إن من يمارس الوصاية يدرك تماما قيمة المعرفة إلا أن أرباحه كلها تعتمد على نشر الجهل، إذن المسألة كلها لا تعدو كونها حفاظا على مصدر ثابت للدخل، وتأتي الطامة حين يبحث الأوصياء عن زيادة في المكتسبات، حينها لا مفر أمامهم من تحويل الجهل إلى قيمة، والجهل حتى يتحول إلى قيمة لا بد من إسقاط كل القيم الأخرى وأولها قيمة المعرفة.
نقطة أخرى: إن الوصاية والمنع والمصادرة وإضافة المزيد من المعايير إلى قائمة المحظورات والمحرمات، كل هذه الإجراءات ستشوه محتوى الكتب! وها نحن قد شهدنا كتبا عُرضت في معرض الرياض للكتاب، لم يكن المؤلف يسعى من خلالها إلا إلى مخالفة كل المحظورات وتحدي المحرمات، وكأن المسألة برمتها تحولت إلى عناد بين جميع الأطراف دون أي اعتبار لإضافة ما يُفيد القارئ، هذا القارئ الذي ما عاد يهتم كثيرا بالمحتوى فغايته الأسمى الآن هي متابعة "الشوشرة" التي سيسببها هذا اللاشيء بين يديه، الذي سُمي زورا "كتاب". وقد يلجأ المؤلف إلى حشو الصفحات بجُمل وعبارات سطحية لا معنى لها ليضمن السماح بالنشر، وينال في المقابل لقب مؤلف على لا شيء، وطالما الأمر بهذه السهولة فمرحبا بـ"أقلام المقاولات". إذًا يُمكن القول إن الوصاية لا تُنقي المحتوى إنما تبارك للسطحية وتجيد استثمار الغثاء!.
نقطة ثالثة: إن عملية تصفح كتاب ليست هي كل القراءة. إنها جزء صغير من مفهوم القراءة العام، وإن كل عملية تأليف لكتاب قيِّم ليست إلا نتيجة توصل إليها شخص أتقن القراءة "قراءة الوجود، التاريخ، الوجوه، الواقع، الأفعال والتصرفات". (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) تحتمل كل هذا وأكثر، فيا من بذلت جهدا ضخما في مراقبة جزء صغير من عملية القراءة، هل خطر ببالك أنك عبر الوصاية تحفز الناس على القراءة بمفهومها الأعمق؟!
نقطة أخيرة: إن علاج "التشكيك في الثوابت أو الشك في الثوابت"، يتم تحت الضوء بالحوار والإقناع لا بالمنع والمصادرة، إن الإنسان حين يقرأ نصا ثم يراوده الشك، فإن شكه لن يزول إلا بالحوار والجدال ومقارعة الحجج، على أن يتم كل هذا في مكان مضيء، أما المنع والحجب فلن ينزع الشك عن صدر الشاك، إنما سيجعله يضمر الشك في نفسه ويذهب به بعيدا عن الأضواء؛ لينميه هناك ويرعاه، والأمر نفسه ينطبق على من يحاول زرع الشك في نفوس الآخرين، ستبور كل بضاعته إن وُضعت على طاولة النقاش وتحت الأضواء، أما الحجب والمنع فسيجعله يمارس ضلالاته في الأزقة المظلمة، حيث الساحة مفتوحة أمامه ليكون سيد الموقف.