اغرورقت عيناي أمام أديب جازان شاعرنا الفرساني الكبير إبراهيم مفتاح، وهو يلقي قصيدته التي ألقاها أمام الأمير نايف بن عبدالعزيز ـ يرحمه الله ـ عندما زار فرسان لأول مرة في شعبان عام 1398 وأقتبس هنا:
"فهل لنا يا سمو الضيف من أمل
في نظرة نحو مستشفى يداوينا
مريضنا كم تلوى من تألمه
والحل جيزان أو موت على المينا"
كانت قصيدته الخالدة الفتيل الذي أشعل استدعاء وزراء المالية والمعارف والتخطيط آنذاك بعد ساعات معدودة من انتهاء حفل استقبال الأمير. وصل الوزراء وطلب الأمير نايف ـ يرحمه الله ـ من محافظ فرسان عبدالعزيز القصيبي ـ يرحمه الله ـ استدعاء شاعرنا إبراهيم مفتاح وعند حضوره قال له الأمير: "سمّع الوزراء القصيدة يا إبراهيم".
قام شاعرنا بواجب المواطنة الذي نص عليه نظام الحكم الأساسي، بل وجسّد أروع صورة بتشخيص ما عجز عن تشخيصه الوزراء، ليأتي رد الأمير نايف ـ يرحمه الله ـ باستدعاء الوزراء آنذاك، كدرس في أبجديات التنمية الحقيقية وهي أن التخطيط التنموي مجرد تنظير ما لم يكن مستنيرا بآراء المواطنين ومعاناتهم واحتياجاتهم.
وبعد مرور 37 عاما على القصيدة الخالدة، زفت جامعة جازان مطلع هذا الأسبوع أول دفعة من طالبات الطب والصيدلة بحضور صاحبة السمو الملكي الأميرة عادلة بنت عبدالله بن عبدالعزيز، التي كانت معهن قبل سنوات ووقفت معهن في سنواتهن الأولى في المعامل وراهنت عليهن وكسبت الرهان، ليقسم أمامها وأمامنا 52 خريجة طب وجراحة عامة قسم الطبيبة، في مشهد مهيب كهيبة جازان.
اصطفت طبيبات جازان على مسرح تخرج جامعتهن الناشئة التي أحرجت الجامعات العريقة بكفاءة إدارتها بقيادة مديرها معالي الدكتور محمد آل هيازع الذي دفع بـ52 طبيبة للقطاع الصحي بمنطقة جازان في قفزة كمية ونوعية للانضمام إلى زميلاتهن الطبيبات السعوديات الثلاث فقط في المنطقة.
هذا كله ما كان ليتحقق لولا فضل الله، ثم نساء جازان الفاضلات أمهات الـ52 طبيبة اللاتي قمن بتقديم الدليل الفعلي، بتقديم بناتهن الطبيبات، كبرهان على أن المرأة السعودية في مناطق المملكة كافة بمدنها وقراها قادرة على تحقيق حلم ورؤية الملك – حفظه الله – الداعم الأول للمرأة، وهذه المرة كان تحقيق الحلم على يد امرأة جازان.
امرأة جازان لم تستسلم للنمطية التي لطالما أحاطت بها وبمنطقتها، تجاوزتها بخطى ثابتة لتبهرنا ببناتها طالبات جامعة جازان الطبيبة والصيدلانية والأخصائية الصحية يقفن أمام شاشات عرض وخلفهن شواطئ جازان بكل ثقة وشموخ، يشرحن تجاربهن في برامج التبادل الصيفي في جامعات عالمية عريقة، لترتسم بسمة عريضة على وجهي ونظراتي لم تغادرهن من شدة الانبهار إلا لنظرات خاطفة مع الطبيبات عضوات مجلس الشورى، الدكتورة منى آل مشيط حرم معالي مدير جامعة جازان، والدكتورة سلوى الهزاع، وهن من أوائل الطبيبات السعوديات، إذ لا يمكنني تصور شعورهن وهن يشهدن حصاد طالبات جامعة جازان الصحي، وبالتأكيد فإنه لا يمكنني حتى تخيل شعور الأميرة عادلة وهي من شهدت الغرس قبل الحصاد.
أرست جامعة جازان أحد أهم قواعد الإصلاح الصحي بتدريب وتخريج الكوادر الطبية والصحية المحلية، ولأن أهل جازان أدرى بجبالها وشطآنها، فهم الأدرى بتحديات وعوائق التنمية الصحية، وهم الأدرى بتحديد الاحتياجات والأولويات الصحية، وعليه فلا بد من دعم مخرجات جامعة جازان الصحية بمحفزات وظيفية ومادية، تتجاوز الكادر الصحي الركيك الحالي الطارد للكفاءات، للحد من هجرة هذه العقول والمهارات المتميزة إلى المناطق المركزية.
نظم أديب جازان والشاعر الفرساني إبراهيم مفتاح قصيدة تنموية قبل 37 عاما، تتضاءل أمامها دراسات واستشارات الوزارات البيروقراطية، ولأن جازان ولود ودود فإنها كما أنجبت شاعرنا التنموي إبراهيم مفتاح، فإنها قادرة على إنجاب أول طبيبة مديرة لصحة جازان، تقوم بتصحيح مسار الخدمات الصحية لمنطقتها وأهلها، ولم لا، فنحن في عهد الملك عبدالله – حفظه الله ـ الذي كسب الرهان عليهن طالبات طب بجامعة جازان وسيكسب الرهان عليهن قياديات بصحة جازان.