أكتب هذا الأسبوع من برلين، حيث كان هدف زيارتي بحث تعزيز العلاقات الخليجية-الألمانية، واستكشاف وسائل جديدة للتعاون بينهما. فهناك رغبة ألمانية في تعزيز دورها الدولي ورغبة لدى مجلس التعاون الخليجي في توسعة آفاقه الاستراتيجية.
سأكتب مفصلاً عن ذلك الأسبوع القادم، أما اليوم فأكتب عن انشغال ألمانيا بأزمة أوكرانيا، وعن بداية الحرب الباردة الجديدة بين روسيا والغرب.
تتمتع ألمانيا بأوثق العلاقات مع روسيا، أكثر من بقية دول الاتحاد الأوروبي، ولذلك فهي الخاسرة الأولى في المواجهة بين روسيا والغرب. هذه الحقيقة، إضافة إلى اعتمادها على الغاز الروسي، حدت من خياراتها في معالجة الأزمة، ولذلك قال لي زميل ألماني: "لو أننا كنا نستورد الغاز من دول مجلس التعاون بدلاً من روسيا، لربما تمكنا من اتخاذ موقف مختلف نحو أزمة أوكرانيا، فهل تستطيعون إمدادنا بما نحتاجه من غاز؟"
وفي بداية أزمة أوكرانيا، لعبت ألمانيا دوراً حيادياً، مؤكدة على الحوار، وسعت إلى إيجاد حل دبلوماسي يحفظ لموسكو ماء الوجه، وتحدثت المستشارة الألمانية "أنجلا ميركل" مع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" عدة مرات بحثاً عن حل وسط. ولكنها فقدت الأمل على ما يبدو، حين قالت بعد إحدى تلك المكالمات إن الرئيس "يعيش في عالم آخر".
أما بقية دول الاتحاد الأوروبي، خاصة في أوروبا الشرقية، فقد اتخذت موقفاً قوياً ضد الإجراءات الروسية في أوكرانيا منذ البداية. فهي تخشى أن يأتي الدور عليها لاحقاً لو نجح المشروع الروسي في أوكرانيا. ولذلك، انتقد رئيس الوزراء البولندي "دونالد تسك" موقف ألمانيا المتردد، وقال بصراحة غير معهودة بين أعضاء الاتحاد "إن اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي يمكن أن يؤثر سلباً على السيادة الأوروبية"، محذراً من أن ذلك يحد من قوة أي رد فعل يمكن لألمانيا أو الاتحاد الأوروبي اتخاذه لمواجهة التهديدات الروسية، مضيفاً أن على ألمانيا أن تجد طريقة لـ "تصحيح سلوكها الاقتصادي لكيلا يشل اعتمادها على الغاز الروسي أوروبا عندما تحتاج إلى اتخاذ إجراءات سريعة وواضحة... في وقت نحتاج فيه لحماية المصالح الأساسية لأوروبا".
وخلال شهر فبراير، أشار المسؤولون الألمان إلى توجه ألمانيا للعب دور أكبر في القضايا الدولية. ففي "مؤتمر الأمن" الذي عقد في "ميونخ"، توقعوا نهاية لعهد التحفظ، إذ قال وزير الخارجية "فرانك والتر ستاينماير"، "إن ألمانيا أكبر من أن تجلس على الهامش وتكتفي بالتعليق على السياسة الدولية." وربما كان انطلاقاً من هذا التوجه الجديد أن "ستاينماير" لعب دوراً هاماً الشهر الماضي في التوصل إلى اتفاق نادر في "كييف" بين الأطراف الأوكرانية المتنازعة.
ولكن بعض الخبراء والمسؤولين الغربيين شككوا في قدرة ألمانيا على تنفيذ هذا التوجه، بل قال أحد الخبراء وهو مسؤول أميركي سابق "إن الاتحاد الأوروبي متعطل، ولكن المشكلة الحقيقية في برلين".
وفي بداية أزمة أوكرانيا، عارضت ألمانيا بالفعل فرض عقوبات على روسيا، بل عارضت اتخاذ إجراءات أخف، مثل استبعاد روسيا من مجموعة الثماني.
ولكن بعد فشل المحاولات التي قامت بها ألمانيا للتوسط لحل الأزمة، قرّرت ألمانيا اللحاق بالدول الأخرى باتخاذ إجراءات عقابية بحق روسيا.
ففي يوم الخميس الماضي "13 مارس" حذرت المستشارة الألمانية روسيا بأنها تعرّض نفسها لـ "عواقب ضخمة سياسية واقتصادية" إذا لم تغير من سياساتها نحو أوكرانيا، مؤذنة بأنها وللمرة الأولى على استعداد لفرض عقوبات على روسيا. وأعلنت ميركل أمام البرلمان الألماني بحزم أن تلك العقوبات "ليست مجرد تهديد، أو أنها ستقتصر على تغيير طبيعة العلاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي. بل إنها ستكون عقوبات جسيمة، تُلحق الضرر بروسيا، اقتصادياً وسياسياً." وأضافت أن دول الاتحاد الأوروبي، وغيرها من الدول الغربية، مستعدة لتجميد الحسابات البنكية، ووضع قيود على السفر، للأشخاص والجهات التي يُشكّ في خرقها لوحدة الأراضي الأوكرانية، مضيفة "إن وحدة الأراضي الأوكرانية لا يمكن أن تكون موضع جدل."
وبخطاب "ميركل" هذا، انتهى حياد ألمانيا. ومما سرّع في اتخاذ قرارها تسارع الإجراءات الخطيرة التي اتخذتها روسيا والمجموعات المؤيدة لها، والمجموعات المتطرفة الأخرى، خاصة محاولة اقتطاع أجزاء من أراضي أوكرانيا أو إلحاقها بروسيا، بالإضافة إلى تصاعد خطاب الكراهية العرقي والهجمات العرقية التي أعادت للجميع ذكريات مؤلمة.
وقد فشلت جميع المحاولات الدبلوماسية حتى الآن، ففي يوم السبت "15 مارس" استخدمت روسيا حق النقض ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يؤكد وحدة أراضي أوكرانيا وعدم شرعية الاستفتاء على مستقبل القرم. ولم يصوّت ضده سوى روسيا، مما أكّد عزلتها الدولية. وكان ملاحظاً على وجه الخصوص أن الصين لم تصوت ضدّ القرار، بل اكتفت بالامتناع عن التصويت. فالصين، على الرغم من تحالفها مع روسيا في كثير من المواضيع، تعتبر احترام وحدة أراضي أي دولة أمراً مقدساً.
وفي حين كان الدبلوماسيون يناقشون مسودة قرار مجلس الأمن، هاجمت القوات الروسية الموجودة في شبه جزيرة القرم ميناءً للغاز خارج القرم، مثيرة التخوف من أطماع أخرى خارج القرم، متزامنة مع الاستعدادات للاستفتاء على مستقبلها.
وتُظهر أزمة أوكرانيا حقيقة عودة الحرب الباردة، ولم يتغير اللاعبون الرئيسيون كثيراً عما كانوا في الحرب الباردة الأولى التي استمرت عقوداً وانتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي. تغير بعض الأطراف، فدول أوروبا الشرقية التي كانت ضمن المعسكر الروسي سابقاً أصبحت اليوم من أشرس أطراف الحلف الغربي.
فما هو موقف مجلس التعاون؟ تبنت معظم دول المجلس الحياد خلال الحرب الباردة الأخرى، وكانت أعضاء في "حركة عدم الانحياز"، وإن مال بعضها بعض الميل تجاه المعسكر الغربي.
أما في الحرب الباردة الجديدة فلم تتضح توجهات مجلس التعاون كمنظومة، أو توجهات دوله إلا أنه من المتوقع أن يطلب منها اتخاذ مواقف لدعم أحد المعسكرين. ويظل الحياد المبدأ الأسلم، وهو الأفضل حين لا يكون هناك توافق في المصالح والمبادئ مع أي من الجانبين.