منذ زمن طويل وأنا أتابع بعض المشايخ المحبين للظهور الإعلامي، فأجدهم لا يجدون مناسبة إلا ويستغلونها من أجل إشباع رغبتهم في الظهور، فتجدهم يدعون للجهاد وهم ليسوا من أهل الجهاد، وتجدهم تارة أخرى من أجمل مصايف العالم يدعون شباب الأمة للغضب والثورة من أجل نصرة سورية وهواتفهم المحمولة مليئة برسائل الاطمئنان على أبنائهم المبتعثين في أرقى جامعات فرنسا وأميركا وبريطانيا وكندا وأستراليا، ويكفرون المخالفين لأفكارهم ويجيشون عليهم أتباعهم بحجة الدفاع عن الدين، والدين بريء من تأجيجهم وإثارتهم للفتن.

كنت أتساءل - وما زلت - لماذا تمنحهم القنوات صدارة برامجها بينما هناك علماء لديهم من العلم ما يكشف لنا جهل هؤلاء، ولديهم من الحكمة ما يبين لنا سذاجتهم، ولديهم من الحق ما يبين لنا الباطل الذي ألبسوه بالحق، والحق الذي ألبسوه بالباطل؟!

من أخطر ما نمر به الآن هو تقديس البعض لأنصاف المشايخ، فتجد أغلبية أتباعهم يقدسون أقوالهم دون سؤال، ويحاربون من أجلهم كل مخالف لأفكارهم، وتغلب عاطفتهم على العقل والمنطق، ويتجاهلون حقهم في التحري والبحث والاعتراض؛ وكأن ما قاله من يدعون أنهم علماء الأمة قرآن مُنزل من عند الله لا نقاش فيه ولا تأويل.

في فجر الخميس الماضي 13 مارس 2014 رحل بهدوء الكبار إلى مثواه الأخير الشيخ العلامة زيد المدخلي في مستشفى الملك فهد المركزي بجازان، ووري جثمانه الثرى في يوم الجمعة 14 مارس 2014 في محافظة صامطة. رحل رحمه الله دون أن يؤجج يوماً فتنة ودون أن يلبس حقاً بباطل، ودون أن يخذل طلابه ومحبيه بأن يغلف لهم أهدافا سياسية أو شخصية بغلاف الدين، بل كان رحمه الله ومنذ بدايته في طلب العلم متواضعاً لعلمائه، وازداد تواضعاً لطلابه حينما بلغ به العلم مبلغه.

قضى الشيخ زيد المدخلي من عمره ما يزيد عن 60 عاماً في طلب العلم والتعليم، حتى أصبح أحد من لقنوه العلم في صغره يحضر دروسه ومحاضراته ليستفيد ويتعلم منه.

رغم شظف العيش في عام 1360 إلا أن الشيخ زيد رحمه الله كان حريصاً على العلم، فبدأ في طلب العلم من قريته "الركوبة" ثم التحق بمدرسة صامطة، وفي عام 1368 التحق بالشيخ "حافظ الحكمي" في محافظة "بيش" وقرأ عليه مع مجموعة من الطلاب المغتربين، ومن ثم عاد للالتحاق بالمعهد العلمي في "صامطة" حتى تخرج فيه عام 1380، ولم يتوان عن السفر للدراسة في جامعة محمد بن سعود الإسلامية رغم صعوبة السفر والغربة في ذلك الحين حتى تخرج في الجامعة عام 1384، وعاد ليعمل معلما في المعهد العلمي بصامطة حتى تقاعد في عام 1417، وذهب يعمل في صومعته بهدوء ووقار وحكمة، زاهداً في بريق الإعلام الذي أغرى بعض من نراهم الآن يتسيدون شاشات القنوات الفضائية، فأنشأ مكتبة تحتوي على ما يزيد من 4000 كتاب أتاحها لطلابه الذين يأتون إليه من كل مكان، وجدول محاضراته ودروسه في شتى العلوم الشرعية، ويقضي ما تبقى من الوقت في تأليف الكتب الدينية حتى طبعت له 5 كتب تعتبر من أهم الكتب في مجال علم الشريعة.

رغم كل ما توفر للشيخ زيد المدخلي "رحمه الله" من مكانة واحترام وحب طلابه له والعدد الكبير من الحريصين على تتبع علمه ومحاضراته ودروسه؛ إلا أنه لم يدعهم يوماً لشيء لم يأت بمثله، ولم يبحث عن برامج فضائية يحاول من خلالها إضفاء المزيد من الشهرة أو البريق على نفسه، ولم يستغل علمه من أجل تصنيفات فكرية ضد أخرى بل كان يعمل بصمت من أجل الحق، يبحث عن مكامن الفتنة ويخمدها.

أتفق مع الكثير ممن يقولون إن بعض أهل العلم لا يملكون مقومات الظهور الإعلامي والحديث أمام الكاميرات الذي أصبح علماً بحد ذاته؛ إلا أنهم رغم فقرهم بأساسيات الإعلام المرئي أثرى بكثير في العلم والحكمة والوقار من أشباه العلماء الذين لا نجد قناة فضائية إلا وقد أشبعونا من خلالها بإثارة الرأي العام ضد من يخالفونهم في توجهاتهم الفكرية، وأشبعونا بدعوات الجهاد التي لا يلبونها، وأجزم بأن التصنيفات الفكرية التي نراها في مجتمعنا الآن ما هي إلا نتاج تضليلهم وإثارتهم لنقاط الخلاف قبل إبداء محاسن ومكامن الاتفاق.

وفاة العلماء الحقيقيين كأمثال الشيخ "زيد المدخلي" - رحمه الله - يترك مساحة كبيرة لأشباه العلماء الذين يتخذهم الناس قدوة فيتبعونهم بجهالة حتى يهلكوا.

قيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس قال إذا هلك علماؤهم.

وتصديق ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".