لا أظن أحدا من أهل "الخليج" العربي يسره أن يرى العلاقات بين دول المجلس أو دولة منه تتضعضع بأي ظرف من الظروف، فكل أهل الخليج كانوا يتطلعون إلى "الاتحاد" الذي يحمي الكيان في موجات التغيرات الكبرى في المنطقة، التي تسير وفق خطة ممنهجة لا يقف أمامها إلا الاجتماع والوحدة والاتفاق في الرؤية والأهداف.
ولا أظن دولة مثل "السعودية" ـ التي عرفت في سياستها الخارجية بالصبر والتحمل والإغضاء عن هفوات الآخرين – إلا أن الأمر الذي دفعها إلى "سحب السفير" من دولة "قطر" وصل إلى حال لا يحتمل من التجاوزات، التي استدعت مثل هذا الموقف السياسي الصريح في رفض التصرفات القطرية وضررها على السعودية والمنطقة كلها.
إن المتابع للأحوال السياسية في الـ15 سنة الماضية ليدرك أن الدور الذي تعلبه السياسة القطرية في المنطقة هو دور يدعو إلى القلق والغرابة، فالقضية ليست إصلاحا سياسيا داخليا فيها، ولا حركة نهضة تقف عند حدود السيادة للدولة القطرية، ولا بحثا عن مصالح الدولة في طريقة التعاطي مع دول الجوار، وإنما الأمر أوسع من ذلك بكثير، دور يطمح إلى التغيير السياسي خارج الحدود الخاصة، ويجيش في سبيل ذلك المال والإعلام والعلاقات العامة والدعم اللامحدود لجمعيات وتجمعات وتوجهات قد تصل في أحيان كثيرة إلى حد التناقض والقنوات الفضائية الاحترافية التي تتجاوز الحرفة الإعلامية في قضية "الإثارة" إلى بعد أيدلوجي سياسي له خلفيات وبرامج وأهداف يستطيع المدقق أن يرصدها بوضوح، خاصة بعد انطلاق قناة الجزيرة من الدوحة.
فكيف نفهم حالة الاستقاطاب لتوجهات ضد السعودية تاريخا وسياسة وإعطاءها المجال والحرية في التهجم على السعودية وسياستها وإبداء العداوة لها بينما لا نرى لهؤلاء كلهم أي تصريح تجاه السياسة القطرية، مهما كان حجم الأخطاء التي تقع فيها؟ وكيف تحولت مجاميع من المثقفين السعوديين في مواقع التواصل الاجتماعي إلى خط دفاع أول عن سياسة قطر، والإشادة بها والتغني بمنجزاتها، بينما يهمل هؤلاء كل منجز سعودي، ويوسعون العدسة لأكبر مقاس في خلق كثير من الأخطاء وتضخيمها في السعودية، فهل مثل هذا يأتي عفويا في سياق التحالف الإسلامي القومي مع الحكومة القطرية في تنفيذ مخطط في المنطقة كلها يتجاوز حالة الإصلاح الخاصة والمنشودة في أي دولة من الدول.
لقد قلت للأستاذ عبدالله المديفر في حلقة "الفوضى الخلاقة" في برنامج لقاء الجمعة قبل أشهر، حين سألني عن الدور القطري في قضية الفوضى الخلاقة بأن قطر "موعودة بألا يأتيها الربيع العربي"، وكان الوقت ضيقا لبيان الدور القطري في حالة التغيير التي هي في حقيقتها مصنوعة من قوى عالمية تقودها أميركا، وأن قطر ما هي إلا "مندوب" لأميركا والغرب في المنطقة لإحداث هذا التغيير، فإن نجح المشروع حازت ما وعدت به من توسيع النفوذ على حساب جيرانها وإخوانها، وإن فشل المشروع فإن الغرب محتفظ بهذه العلاقات، وهذا جزء من العقلية الجديدة لأميركا، التي تحقق مراميها السياسية وبرامجها بأقل الخسائر وأكثر خطوط الرجعة السياسية أو ما يسمى في المصطلح السياسي الجديد "حروب الجيل الرابع"، التي تجعل المستهدفين يتفانون في هدم أوضاعهم حين تسلط بعضهم على بعض، ثم هي تكسب الجولة الأخيرة في تحقيق أجنداتها واستراتيجياتها الكبيرة والخطيرة، وأظن أن هذا الأمر هو مجازفة كبيرة وغير محسوبة العواقب من دولة هي جزء من منظومة الخليج السياسية، وقد علمتنا التجارب التاريخية والبشرية أن أي إنسان يعطي نفسه فوق قدراتها، ويدخل نفسه فيما لا يتحمل تبعاته، إلا كانت نهايته الندامة والخسران.
إنني على يقين بأن ساسة الدول الثلاث التي سحبت سفراءها من قطر لا يريدون أن يستمر هذا الأمر، ولكني كذلك أعتقد أن هذا الأمر مرهون بأن تكف قطر عن سياساتها المستفزة، وأن تقدر مصالح دول الخليج والعرب والمسلمين، وأن تعرف أن الغرب وإيران لا يؤمن جانبهم، حتى ولو أعطوا الوعود فسياستهم الغدر والانقلاب، وما تجربة الأميركان في إعطاء الضوء الأخضر لصدام حسين لدخول الكويت ثم الانقضاض عليه إلا درس حي على تلك القوى الطاغية البرجماتية، التي تؤجل كل الأخلاق والقيم في سبيل تحقيق مكاسبها ومصالحها الخاصة.