شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. كثيرا ما أفكر كيف كان يمضي النبي صلى الله عليه وسلم وقته في حراء قبل زلزال الوحي الذي اعتصره حتى ظن أنه الموت؟ بماذا كان يفكر؟ كيف كان يقضي أوقاته؟ لماذا حبب إليه الخلاء؟ كيف كان يصعد الجبل ثم يأوي إلى غار جاف أعزل بارد معتكفا متأملاً؟ أعتقد أن هذه العزلة كانت البداية للنقاوة الروحية والصقل حتى يصبح جاهزا لنقش لوحة القرآن في صدره فلا تزول؟ لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه؟
كان عندي على الإفطار اليوم أبو حسن فقال لقد اجتمعت بملحد ينكر القرآن قلت له ماذا قال لك؟ قال اعترض على أسلوب القرآن في استخدام مثل الكلب والحمار والزنيم والعتل والبهيم (الأنعام)؟ قلت له ولكن هذا واقع فهناك من البشر ما يستحي الحمار والتيس أن يفعله ويفعله ابن آدم.
وحين يذكر القرآن كل مثل من هذه الأمثلة فهو يأتي بها في موضعه الحركي وهذا شيء هام؟ ومثلا فعند ذكر صوت الحمار أنه أنكر الأصوات وأكثرها مدعاة لتخريش السمع؛ فهو يذكرها بعد أن يعلم الناس أن لا يرفعوا صوتهم مجلجلا مزعجا، بل لقد طلب من الصحابة في مكان آخر أن لا ينادوا من وراء الجدران والحيطان والغرف فنزلت سورة كاملة بعنوان سورة الحجرات.
في الحقيقة أنا استمتع بالقرآن في رمضان وآخذ من شوطه ما أتابع قراءته دوريا بعد رمضان، فأنهيه دورة بعد دورة، وأغبط ابن تيمية الذي ختم القرآن قبل موته في سجنه بحبس القلعة فيما سمعت أكثر من ستين مرة؟ وكذلك أفهم معنى أن يتدارس جبريل القرآن مع النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة وكانت مرتين في السنة الأخيرة.
وأذكر جيدا أيضا من أيام سوق مدحت باشا قريبا من سوق الحميدية في دمشق كيف كنا نقرأ القرآن كل يوم بجزء ولكن يستغرق ثلاث ساعات من التلاوة والتفسير والتعليق، بل وعرض بعض الأفلام الموضحة لبعض المشاهد القرآنية مثل انشقاق البحر لموسى. أو استعراض جغرافي تاريخي للمعارك والجيوبوليتيك، وأنا شخصيا مثلا لم أكن أفهم أهمية معركة اليرموك التي خاضها سيف الله المسلول خالد بن الوليد حتى قرأته في كتاب (سبع معارك فاصلة في العصور الوسطى) لجوزيف داهموس، فكانت معركة اليرموك واحدة منها، بين (شالون ـ اليرموك ـ أنقرة ـ هاستنجز ـ بوفين ـ كريسي ـ حطين) لقد استدرج خالد الروم بكل بساطة ممن اعتادوا الرطوبات والبرودة من جند بيزنطة إلى غبار الصحراء وهجيرها وحرها وهناك نحرهم النحرة الكبرى.
إن تأمل القرآن في رمضان فرصة سنوية للتأمل كما فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل الوحي وبعد الوحي وختام الوحي قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى. إنها جولة محلقة في التاريخ والنبوات والمعنى والمقدس والطهارة وقصص ممتعة تأخذ بالألباب لا تشبع من تلاوتها كما في سورة يوسف. وهناك مقاطع مثيرة تدعوك لحفظها وتلاوتها دوما، كما في نهاية سورة النحل والبقرة والتوبة والصافات ومقدمة سبا وقصة البقرة وآيات من سورة الروم وتنساب الروحانية تماما شلالات مع الأجزاء الأخيرة فطوبى لمن قرأ وأناب فبشر عباد..