في البداية، أود أن أعتذر لصحيفة الوطن، ولقرائها عن انقطاعي، فهو ليس الأول. لن أبرر أو أختلق أعذاراً لانقطاعي، لكن الشيء الوحيد الذي أتمنى من الجميع تقديره، أنني لا أكتب إلا عندما يكون لعقلي اليد العليا وليس لعاطفتي.. حدثت معي عدة مواقف أو صدمات استوقفني أغلبها، ولكنني سأبدأ بالحديث عن رحلة للمدينة المنورة؛ حيث أصابني ما أصابني من الحزن والذهول وعدم الاستيعاب، بدأت زيارتنا بالصلاة في المسجد النبوي ومن ثم رأينا ما يسر في كل من: معرض محمد رسول الله والأسماء الحسنى، ومكتبة المسجد النبوي التي ختم بها اليوم.. كلنا حماس لما سنراه غداً، استيقظنا باكراً قاصدين مساجد الصحابة رضوان الله عليهم، التي كانت ـ مع الأسف ـ خالية ولا تقام بها إلا صلاة الجمعة أحياناً، وهي مغلقة أيضاً عن أعين الزائرين.. ونحن في الطريق لجبل أحد مررنا على عدة مواقع أثرية مهملة مع الأسف، إلى أن وصلنا لجبل أحد الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: "إن أُحُدا جبل يحبنا ونحبه"، ومن يصل أحدا يصل مقبرة الشهداء، التي دفن فيها سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب عم الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتضم رفات سبعين من الصحابة الكرام الذين استشهدوا في معركة أحد، وكانت مسورة بشكل قبيح يحجب الرؤية، فلماذا لم تعامل أسوة بمقبرة البقيع؟
بعدها توجهنا لشعب أحد ـ وهذا ما فجعني ـ هل يصدق أحدكم أن المكان الذي لجأ إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد إصابته في غزوة أحد وكمدت ابنته فاطمة رضي الله عنها جراحه أصبح "كراج سيارة"، وأن مسجد الفتح الذي صلى به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق منه سوى ربع محراب مهدد بالزوال، بسبب التعديات من قبل مواطنين وزوار، لم يكن ليمر المنظر من ذاكرتي مرور الكرام، فقررت أن أفعل ما جاء بالحديث الشريف: "عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، وبما أنني لا أملك صلاحية التغيير باليد، إلا أنني أملك قلماً يحل مكان اللسان فحمدت ربي على أنني أستطيع فعل ما هو أعلى من أضعف الإيمان.
ما شاهدته في المدينة المنورة لم يقتصر على المواقع مع الأسف؛ فعند زيارة مكتبة الملك عبدالعزيز تفاجأنا بما هو أكثر إيلاماً؛ مصاحف وكتب تعود لأكثر من ألف عام مخزنة بطريقة خاطئة لا ترتقي إلى تخزين كتب حديثة، فما بالكم بكتب عمرها قرابة ألف عام، هذا غير ما تحتويه المكتبة من تحف وستائر للمسجد النبوي الشريف، جميعها مهملة وفي حالة يرثى لها. ما شاهدناه في مكتبة الملك عبدالعزيز في المدينة المنورة يحتاج إلى تدخل سريع على المستويات كافة، وهذا أقل ما نقدمه لمدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولجماعات كان جل ما تملك كتابة القرآن أو الكتب الدينية بخط يدها، ووضعها في المسجد النبوي كوقف وصدقة جارية له ولمن كتب له، فهذه أمانة بين أيدينا، ولا ننس قوله عليه السلام: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فالشيخ عارف حكمت لم ينجب ولداً، فوهبت مكتبته التي أنشأها في المدينة المنورة سنة 1270هـ - 1853م، وقد "كان الشيخ أحمد عارف حكمت بن إبراهيم بن عصمت الحسيني، المولود سنة 1200هـ - 1786م، يعتني باختيار المخطوطات الثمينة المكتوبة بأيدي أشهر الخطاطين، كما أن بعض المخطوطات الفارسية كتبها بخط يده وبذل في اقتناء كتبه وشرائها أموالاً كثيرة وجهوداً كبيرة. وتعد هذه المكتبة من أجل مآثر الشيخ عارف حكمت، ومن مفاخر المدينة المنورة في العصر الحديث، فهي من أغنى المكتبات بالمخطوطات القيمة لكونها تضم بين جنباتها عدداً من المخطوطات النادرة في شتى العلوم والفنون، وتزخر بالجم من التراث الإسلامي المكتوب باللغات العربية والفارسية والتركية، هذا بالإضافة إلى أن كثيراً من المخطوطات زيّنت خير تزيين من حيث الخط والتذهيب. وهي تحتوي على (4389) مخطوطاً أصلياً، و(632) مجموعاً خطياً يحوي على (3838) رسالة مخطوطة، إضافة إلى (7875) مطبوعاً نادراً وحديثاً. من بين المجموعات الملحقة بهذه المكتبة عن طريق الوقف مجموعة إردوغان جعفر أسعد؛ وعدد كتبها 169 كتاباً، ومجموعة صالح إخميمي؛ وعدد كتبها 232 كتاباً.
تتميز مخطوطات المكتبة بأنها تمتد من حيث تاريخ النسخ على مساحة زمنية كبيرة تغطي أحد عشر قرناً، تبدأ من القرن الرابع الهجري وتنتهي في القرن الرابع عشر الهجري. كما تتميز كذلك بأن كثيرا من مخطوطاتها نسخت على أيدي مؤلفيها".
وهي الآن جزء من مكتبة الملك عبدالعزيز في المدينة، أسأل الله ألا نكون سببا في منع عمل ينتفع به صاحبه.