الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، وأكرمنا بالوصول إلى العشر الأواخر من شهر رمضان، والتي تنعم فيها الروح بالراحة والسكينة، والنشوة والسلام، وأسأله سبحانه أن يعيدها علينا جميعاً بالخير والاطمئنان والأمان. وبعد، فإن الاعتماد على أن "الأصل في الأشياء التحريم" أصاب الناس بعنت كبير في كل مناحي حياتهم، إضافة إلى التشويش والتشكيك عليهم. وأدى ذلك إلى النزوع نحو التشديد والتعسير، ورفض الجديد. وظن من هذا رأيه ـ وللأسف ـ أن هذا قوة في العلم، وقوة في الورع، والحقيقة تفيد أن ذلك ما كان ليكون لولا التسرع، وضعف التمييز.

إن النصوص القرآنية والحديثية تشهد أن الصحيح هو أن نقول: "الأصل في الأشياء الإباحة"، ومن هذه النصوص قوله تعالى ـ في سورة الأنعام آية 119 ـ : (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا" ـ أخرجه الإمام البزار والإمام الطبراني من حديث سيدنا أبي الدرداء بسند حسن ـ وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" ـ أخرجه الإمام الطبراني من حديث سيدنا أبي ثعلبة، وفي رواية: "وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تتكلفوها رحمة لكم فاقبلوها"ـ، وقوله صلى الله عليه وسلم : "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه"ـ رواه الإمام الترمذي والإمام ابن ماجة من حديث سيدنا سلمان. وفي رواية: "وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تتكلفوها رحمة لكم فاقبلوها".

لقد أدى إطلاق (التحريم) إلى حرمان الناس من فرص التقدم والتأثير، في مجالات الحياة المختلفة، مما أفسد كثيراً من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله. يقول الإمام ابن القيم ـ في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين)؛ الذي جمع فيه بين الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة وتاريخ التشريع والسياسة الشرعية، 1/344 ـ : "لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله". فحقيقة الشريعة الغراء تثبت أن دائرة الحرام ضيقة جداً، ودائرة الحلال واسعة اتساعا بالغاً. والشرع يثبت أيضاً أن النصوص التي جاءت بالتحريم قليلة جداً مقارنة بما لم يرد نص بتحريمه أو بكراهته أو بإيجابه أو بسنيته أو بإباحته. و"الإنسان منا إذا أصبح وأمسى في خوف ورهبة من هاجس التحريم حيثما حل وارتحل، لمجرد أن كل ما ليس منصوصاً على حله فهو حرام، أو فيه شبهة الحرام... سيدخل في أزمة ضمير، قبل أن يدخل في أزمة حسن تدبير". ورحم الله الإمام السيوطي الذي رجح وضبط القاعدة التي ناقشتُها في عجالة، وقال ـ في كتابه (الأشباه والنظائر)؛ الذي يعتبر من أشهر كتب القواعد والفروع الفقهية، ص: 60 : "مذهبنا الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم". مما يدل على أن ما سكت عنه الشرع غير حرام، وأن الأشياء والأعيان والعادات والأعراف والتصرفات حلالٌ حتى نجد نصاً صريحاً ينهى عنها. أسأل الله العون والتوفيق للجميع، وأرجوه أن يجعل صيامنا وقيامنا مقبولاً.