ولد "محمد العماري" لعائلة تمتهن تجارة الذهب والمجوهرات، فمنذ عمر مبكر كان يصطحبه والده معه ليساعده في خدمة رواد متجر المجوهرات الذي يمتلكه، متعشما أن يكون محمد هو خليفته في هذه التجارة عندما يكبر.
بعد أن تخرج محمد من الثانوية، تفرغ للعمل مع والده في سوق الذهب، وكان يقضي جل يومه في مساعدة والده، وتقديم الخدمة للزبائن، والقيام بمهام المحاسبة، وأية أمور يكلفه بها والده، غافلا حتى عن سؤال نفسه: هل أحب هذا العمل أم لا؟
لم تدم غفوة السؤال بداخله طويلا، حتى أيقظه زملاؤه المتخرجون معه بالثانوية، الذين التقاهم بعد غياب عام كامل، وذهب كل واحد يخبره أي التخصصات الجامعية اختار لدراسته، وكيف أنهم يخططون لمستقبلهم. وبعد أن انفضوا من حوله، وجد محمد نفسه يعيش على هامش فرص الحياة الثمينة، وأنه جعل مستقبله بين يدي من حوله، ووجد نفسه في مهنة امتهنها بناء على رغبة والده، بينما ذهب كل واحد من زملائه يختار مستقبله بنفسه.
قرر محمد أن يمنح نفسه ما يستحق من فرص الحياة، وذهب ليستقل بنفسه، وقبل أول عمل دون علم والده "كقارئ عدادات". أصيب والد وعم محمد بصدمة بعد أن رأوه لأول مرة يرتدي الزي الخاص "بقارئ العدادات". سارع عمه للانحناء به عن والده الغاضب قائلا: ما هذا الذي ترتديه يا محمد.. ماذا تريد أن يقول الناس عن ابن تاجر الذهب؟ والدك لم يقصر معك بشيء؟ ما الذي يجبرك على أن تمتهن هذة المهنة؟ أخبره محمد بكل ثقة، أنه لم يفعل شيئا معيبا وإنما يبحث عن مستقبله، وأنه لن يتخلى عن العمل مع والده، وسيكون معه طوال الفترة المسائية.
قرن محمد نفسه بوظيفة ودراسة في تخصص يحبه، فذهب يعمل "قارئا لعدادات الكهرباء" من الفجر وحتى العاشرة صباحا، ومن ثم يذهب للمقاعد الجامعية طالبا بهندسة الحاسب الآلي حتى يحين وقت العصر، وبعدها يذهب للعمل بمحل والده حتى يغلق بالعاشرة مساء.
لم يصطدم محمد مع عائلته في هذا القرار فقط، فلم تمر عاصفة رفضهم لعمله المتواضع من وجهة نظرهم حتى واجههم بقرار زواجه من فتاة تنتمي لقبيلة أخرى، وصمد حبه وتمسكه بها أمام رفضهم وغضبهم حتى استطاع أن يتزوجها.
كان محمد يضطر لتغيير زيه ثلاث مرات باليوم: زي خاص للعمل، وثوب للجامعة، وثوب آخر لمتجر الذهب، متنقلا بين العمل ليستقل بنفسه ماديا، والمقاعد الجامعية للوصول إلى مستقبله، ومتجر الذهب بحثا عن رضا والده.
يعمل لأكثر من 17 ساعة في اليوم متحملا كل ضغوطات العمل والدراسة ومساعدة والده بمتجر الذهب وكأن المتنبي يقصده حينما قال:
كل يوم لك احتمال جديد
ومسير للمجد فيه مقام
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
وكذا تطلع البدور علينا
وكذا تقلق البحور العظام
بعد أربع سنوات من العمل المتواصل، تخرج محمد في الجامعة مهندسا لعلوم الحاسب الآلي، وتقدم بشهادته لشركته التي رفضت في البداية قبول الشهادة، بل شكلت لجنة للتحقيق معه عن كيفية حصوله على شهادته رغم أنه على رأس العمل وغير متفرغ! أجابهم محمد، إن كل ما فعله أنه انتهز الفرصة الكامنة في انتهاء عمله مبكرا في الساعة العاشرة صباحا، فبدلا من أن يذهب أسوة بزملائه إلى المقاهي أو الاستراحات أو المنزل، كان يذهب إلى الدراسة بجامعة الملك عبدالعزيز. كانت نتائج التحقيق بأن يتم حفظ طلب قبول شهادته وعدم الأخذ بها.
أصيب محمد بخيبة أمل كبيرة، إثر عدم اهتمام شركته بإنجازه الذي حققه، فبدل أن يكرموه حققوا معه وكأنه أجرم في حقهم، ورفع محمد اعتراضه لمدير القطاع الغربي بالشركة السعودية للكهرباء في تلك الفترة بعدم اعتماد شهادته فأنصفه، وأعطاه ثمن جهده وكفاحه بأن حوله من قارئ عدادات إلى مهندس مبتدئ بقسم الحاسب الآلي.
لم يكن يتوقع والد وعم هشام أن بدلة العمل التي كانوا يزدرون عليه ارتداءها، أنها ستهديهم الفخر اليوم بأن ابنهم أصبح مديرا لتقنية المعلومات في إحدى أكبر الشركات بالشرق الأوسط "الشركة السعودية للكهرباء".
قرار محمد أن يخرج من تجارة الذهب التي لم يجد نفسه فيها، فتح له أبواب أحلامه، وذهب يعمل كما يحب وكما تتوق له روحه.
من أكبر الأخطاء التي نرتكبها بحق أنفسنا أننا نغفل عن الفرص التي تتيحها لنا الحياة، في أن نختار مستقبلنا ومصيرنا بأنفسنا، ونمضي ما تبقى من عمرنا مكتفين بالعيش على فقر الفرص التي يوفرها لنا من حولنا، ونعتاش عليها على الفاقة، "مفوتين" على أنفسنا ثراء الفرص التي بوسعنا أن نقتنيها لأيامنا القادمة متى ما تحلينا بالشجاعة في اتخاذ قراراتنا.
يقول السيد "والت ديزني": كل أحلامنا من الممكن أن تتحقق إذا كانت لدينا الشجاعة الكافية لتتبعها.