تعتبر الثقافة مرتكز التطور الحضاري، إذا ما تم اعتبار الثقافة هي أسلوب الحياة الشامل بما فيه من جوانب إبداعية؛ حيث تركز الحضارات على دور الفكر البشري في مسيرة التقدم الذي يبرز من خلال المكونات الاجتماعية (البانورامية) التي تعدُّ مصدر قوة للثقافة، ولا سيما إذا ما تميزت بالتعددية والتعايش بين هويات ولغات وأعراق مختلفة.

وإذا ما كانت الحضارة هي المنجزات المادية للإنسان، فإن الثقافة هي منجزات الإنسان المعنوية بما فيها من فكر مجتمعي تندرج ضمنه الفنون والآداب والعادات والمعتقدات والتقاليد وغيرها، وللنخبة المثقفة دور كبير في نشر الثقافة عبر العصور عبر حركة التأليف والترجمة والنشر وما ارتبط فيها من جوانب ترتكز على فعل الكتابة بما فيه الصحافة، إلا أن الثقافة لا تصنعها النخبة فقط، بل يشارك فيها المجتمع برمته، سواء بشكل تلقائي أو مقصود ومنظم ومخطط له؛ مما يعني أن تفعيل الثقافة بشقيها النخبوي والشعبي أمر ضروري، بحيث تعتمد النخبوية على ما يهم النخبة، وتعتمد الشعبية على المنتج الثقافي لعامة الناس بما فيه من إبداعات.

لقد شهدت الحضارة البشرية تطورات وتحولات عديدة منذ فجر تاريخها، ونشهد اليوم أيضاً تحولات أخرى قوية ومتسارعة تمرُّ بها مجتمعات العالم -والمجتمع السعودي جزء منها- تتمثل هذه التحولات بتغير القيم والمفاهيم وأساليب التفكير والعلاقات الثقافية والسياسية والاجتماعية؛ ولذلك من البديهي القول بأن ثورة الإعلام والاتصال قد أسهمت بدفع عجلة هذا التغير والتحول القيمي، حتى وصلت مجتمعات العالم إلى مرحلة ذوبان محسوس للحواجز والقيود.

ونتيجة لهذه التحولات العامة التي نشهدها اليوم، تحدث تحولات ثقافية موازية، وعلى هذا الأساس يمكن أن نلحظ ما يمر به مجتمعنا السعودي (الفتيّ) من تغيرات سريعة الوتيرة؛ مما حرّك سكون الجانب الثقافي للمجتمع وهذا أمر إيجابي يفترض أن تنخرط فيه مؤسسات المجتمع المختلفة، وهذا ما يقود إلى فكرة (الاستثمار) في المجال الثقافي كاستجابة للتحولات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية يكون فيه الفرد شريكاً إيجابياً وفاعلاً فيها.

وعلى ضوء هذا يمكن استثمار المال في المشاريع الثقافية التي تعود على المستثمر بالربح وعلى المجتمع بالنفع، فالثقافة كأي سوق آخر مفتوح للاستثمار، شريطة معرفة مفاتيحها واتجاهاتها، ففي كل دول العالم يتم الاستثمار في الثقافة وتحويلها إلى عنصر جذب، إلا أن المهم في الأمر هو استراتيجية الاستثمار الثقافي، وهناك العديد من التجارب الغربية والعربية التي لو بحثنا فيها يمكن أن نستفيد منها وربما نبتكر صيغاً جديدة.

وللتأسيس لهذه الفكرة تبرز الحاجة لتنظيم مؤتمر دولي لهذا الموضوع، على أساس أن الأفكار الجديدة تطرح في بحوث المؤتمرات للتأسيس لها، وذلك بالتزامن مع البحث في تجارب الآخرين ودراسات الجدوى، ولا سيما أن معظم الأفكار الخلاّقة في مختلف المجالات تنبثق عن المؤتمرات والندوات، ويمكن الاستعانة بدراسات مراكز البحوث في مجال الاستثمار الثقافي، ومنها جانب عدم اقتناع المستثمر وإيمانه بجدوى الثقافة، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل على المستوى الاجتماعي وعلاقة ذلك بالمستقبل.

ربما يبحث المستثمر عموماً عما يدر عليه أكبر ربح في أقل وقت وأقل رأسمال، غير أن الاستثمار في مجال الثقافة لا يدخل اليوم ضمن اهتمامات المستثمرين لسببين رئيسين: الأول هو ما يبحثون عنه ويرغبون في استهلاكه، والثاني أن المعرفة آخر ما قد يفكر به الفرد في ظل أوضاعه الإنسانية وظروف واقعه، حيث لا يمكن أن يفكر الفرد في قراءة كتاب قبل تناول رغيف، وهنا تبرز أهمية التنمية عموماً، وأنه لا يمكن للتنمية أن تتحقق دون أن يسير الجانب الاقتصادي بسرعة مناسبة ضمن فضاء الجوانب الأخرى الاجتماعية والسياسية والثقافية.