قبل أيام طالعتنا صحف إلكترونية سعودية بمجموعة أخبار متفرقة عن شركة مالية سعودية لم تذكر اسمها مملوكة لبنك إسلامي كويتي حاصلة على ترخيص العمل في المملكة منذ عام 2008، ولم تمارس العمل الفعلي بعد، وهذا أمر طبيعي في بعض الشركات، نظراً لسوء الإدارة أو غياب الرؤية التخطيطية أو غير ذلك، لكن الأمر الملفت في الخبر هو تولي أكثر من أربعة رؤساء تنفيذيين إدارة تلك الشركة خلال خمس سنوات فقط، وهو أمر غير طبيعي لشركة مالية، من المفترض أن تجنح نحو الاستقرار والثبات، وأن تعمل بجدٍ على بناء علاقات طويلة الأمد مع عملائها؛ لكن إذا عرفنا أن الشركة لا تزال تستأجر مقراً موقتاً لها منذ تأسيسها -قبل ست سنوات- لبطل العجب!

هذه الأخبار المتعددة التي لفتت نظرى؛ تفتح الباب واسعاً لسيل متنوع من التساؤلات المشروعة مني كأي مواطن عادي يتأثر بسوق المال، رغم كوني غير متخصص في الاقتصاد وشؤونه، لكنني مؤمن بأن تفعيل الشركات المالية بشكل منظم وواضح سوف يساعد على النمو الاقتصادي المستقر، ويزيد فرص الاستثمار الفردي للمواطنين، فضلاً عن بناء وتطوير الكوادر الفنية من شباب الوطن، الذي ينعكس إيجابياً على الجميع بطبيعة الحال، وهو ما يتوافق مع التوجه المعلن لهيئة السوق المالية، إذ إنها رخصت خلال السنوات الماضية لما يزيد عن تسعين شركة استثمارية، وكثير منها مملوكة لشركات أجنبية. ومن المعلوم أن بعض هذه الشركات استثمر بشكل حقيقي في السوق السعودي، وفعّل جميع الرخص التي حصل عليها، بل ووظف أعداداً جيدة من الشباب السعودي، لكن المشكلة هنا أن كثيراً من تلك الشركات لم تمارس العمل بجميع الرخص التي حصلت عليها، واكتفى بعضها بافتتاح مكاتب تمثيلية "صورية" تحتوي على أقل من عشرة موظفين للقيام بالأعمال الإدارية، وفي حال حصولهم على أي عقد داخل المملكة يتم تعميد المكاتب الخارجية التابعة لنفس الشركة لإنجاز العقد أو المشروع! دون أن يكون هناك أي دور حقيقي لمكتب الشركة في المملكة، أما البعض الآخر فتجاوز ذلك إلى استغلال الترخيص للحصول فقط على تأشيرات زيارة لموظفيه من مكاتبهم الخارجية، وذلك لتقديم الخدمات الاستشارية والمالية داخل المملكة، مما أفقدنا فرصة حقيقية لتدريب شبابنا وبناء قدراتنا الوطنية!

السؤال هنا: أين هيئة سوق المال عن هذه الشركة وغيرها؟ التي تستحوذ على التراخيص ولا تعمل، والتي تستقطب الشباب السعودي ثم تفصله تعسفياً دون وجه حق، كما تواترت الأنباء المنشورة عن هذه الشركة المجهولة، التي لم تكتف بفصل الرئيس التنفيذي للشركة، بل كذلك نائب المدير المالي، ومدير الموارد البشرية وجميعم من السعوديين، بالإضافة إلى رئيس الحسابات، وذلك بعد تكليفها لإدارة الشركة لمدير وافد من جنسية عربية! كما ورد في الخبر.

هل الهيئة فقط تكتفي بإصدار التراخيص دون مراقبة مباشرة لتفعيل تلكم الرخص من عدمها، أم هل من المفترض أن يتجاوز دورها مجرد الترخيص وتنظيم السوق إلى بناء القدرات الفنية لأبناء الوطن العاملين في هذا المجال، وحفظ حقوقهم، ذلك أن وزارة العمل –وللأسف- بعيدة كل البعد عن الواقع الحقيقي للشركات المالية، ولا تفرض حداً أدنى للسعودة في تلكم المؤسسات، ولنا في مؤسسة النقد العربي السعودي خير مثال، حينما عملت منذ عقود على سعودة حقيقية لقطاع المصارف المحلية، بل إنها في العام الماضي سبق وأن طلبت من المصارف وشركات التأمين تحديد أسماء شاغلي المناصب القيادية وجنسياتهم، وتحديد المرشح السعودي لشغل منصب غير السعودي خلال المستقبل القريب، مما أنتج في نهاية الأمر صناعة سعودية متكاملة حفظت للبلاد أموالها وكوادرها في النهاية.

لقد اتخذت هيئة سوق المال خلال السنوات الماضية، العديد من الخطوات التنظيمية الصحيحة، لكنها عملت فقط على استكمال بناء الأنظمة والتشريعات وكذلك ترخيص المنشآت، بيد أنها أغفلت الضلع الأهم في منظومة سوق المال؛ وهم الكوادر التي تدير هذا السوق المهم، فهي لم تطلب سوى سعودة منصبين اثنين في الشركات المالية وهما: مسؤول "المطابقة والالتزام"، ومسؤول "غسيل الأموال"، كما أنها أغفلت إصدار أنظمة وتشريعات تضمن بناء وتطوير قدرات كوادر وقادة مثل هذه المؤسسات بشكل مهني وفني أولاً، وحفظ حقوقهم الوظيفية ثانياً، وغني عن القول إن العاملين في المؤسسات المالية يلعبون دوراً لا يمكن إغفاله بالتأثير على الاقتصادي الكلي للبلاد، ففي صلاحهم حفظ لأخلاقيات سوق المال، وفي تدني مستواهم وعدم استقرارهم مخاطر عديدة على السوق وعلى أموال المستثمرين عامة، كما حدث في بعض الدول.

أيها السادة، إنه من المسؤولية الأخلاقية قبل النظامية على هيئة سوق المال أن تكثّف زياراتها التفتيشية على تلكم الشركات، وأن تتأكد من تفعيل نشاطها، وأن تلغي الرخص غير المفعلة، والأهم أن تراقب عن كثب السعودة الحقيقية لعملياتها اليومية، ومن ثم الخروج على الرأي العام بنتائج خطة عمل الهيئة للحفاظ على حقوق أبنائنا ومستقبل بلادنا، فسوق المال ليس مشروعاً فردياً بسيطاً، بل هو منظومة متكاملة يصل أثرها إلى جميع أفراد المجتمع بجميع فئاته، ومن الضروري أن يكون محكماً ومداراً من قبل أبناء البلد، فهم الأحرص والأكثر خوفاً على مستقبلنا ومستقبلهم.