في اليوم الأخير من زيارة اليابان، وفي منتصف الطريق الساحر ما بين يوكوهاما إلى طوكيو، فوجئت بصديق الحياة وزميل الدراسة الدكتور سعد السويلم يسألني: أي شيء لفت انتباهك بشدة أكثر في هذا البلد ونحن على أبواب المغادرة؟ فجأة تقفز الإجابة في تحوير السؤال: ما الذي لم أشاهده في اليابان؟.. والجواب: شاهدت هناك كل شيء. عشت المدن الذكية لأسبوع مكتمل وخرجت منها مؤمناً أن الفوارق التقنية ما بين "عالمين" تجعل من قدرتي على التكيف صعبة ومؤلمة. عشت الانضباط الذي حولني إلى آلة تريد تهذيب هذه "الأنا" الفوضوية في مجرد أسبوع وهذا من الاستحالة أن يحصل.

بكل الاختصار، شاهدت في اليابان... كل شيء.. وحاولت التأقلم والمسايرة مع كل شيء. والجواب المباشر.. خرجت من اليابان فلم تقع عيناي.. أبداً أبداً.. على منظر طفل واحد ولا صورة امرأة "حبلى" سوى ما كان لي من زيارة مدرسة ابتدائية سأكتب عنها في مرة لاحقة.

قصة السكان ومعدلات النمو السكاني بالنسبة لي هي لب وجوهر أي بناء وتخطيط تنموي. الكارثة الكبرى أن بيننا من ينظر إلى معدلات النمو السكاني على أنها مؤشرات موجبة دون النظر إلى تقابلية "الجغرافيا والموارد". والمدهش المثير في الصدفة نفسها أن زيارتي لليابان كانت منتصفاً ما بين عوالم باكستان والهند: حيث الخزان البشري الهائل لأجداث تخرج من الأرض في جوف الصباح إلى الأمل المستحيل البائس دون أن تدرك جوهر المشكلة: معادلة النمو السكاني إلى حجم الموارد.

وصلت نيودلهي صباح اليوم التالي مبكراً ووجدت في غرفتي الفندقية نسخة طازجة من صحيفة "Times of india" وأنا المهووووس بتصفح الصحف المحلية لكل بلد ومجتمع أذهب إليه. وفي العنوان الثانوي بالصفحة الأولى: المواطن الهندي يشرب ثلاثة ليترات من الماء في اليوم ويستهلك ضعفها لحاجاته حينما يصحو في الصباح الباكر. التحقيق يتحدث عن الانهيار الهائل في منظومة الضخ والسحب لهذه الليترات من الماء إلى رقم سكاني ملياري ولكم أن تتخيلوا حجم البحيرة الهائلة من خراج "معادلة الماء" وحدها وخصوصاً إذا ما عرفنا أن التلوث المائي هو القاتل الثاني في دولة مثل الهند بحسب نفس التقرير.

تعالوا إذاً لتقريب الأرقام والصور: مساء البارحة عدت إلى غارات "جوجل" وأسئلة المقاربة. تقول أرقامها إن معدلات العمر الياباني تبلغ "46" سنة بينما تبلغ في الهند "23" ولدينا في المعدل الوطني "16" سنة، بينما تبلغ في الشقيقة مصر "18" سنة، مع العلم أن معدل العمر السكاني يختلف عن مصطلح "متوسطه"، معدل النمو السكاني الياباني السنوي يؤشر بالسلب إلى نسبة الوفيات وهذا يعني، بحسب الإحصاء، أن اليابان ستختفي نظرياً بعد قرنين من الزمن بحسب الأرقام، مع العلم أن هذا لن يحصل. معدل النمو السكاني الياباني يشير بحسب ما قرأت إلى أن دولة مثل اليابان تلغي كل يوم جديد فصلاً دراسياً تبعاً لنقص نسبة المواليد، مع العلم أنها ترفع سنوياً نسبة الصرف على التعليم 6% وهذا الرقم يشكل ضعف نسبة الناتج المحلي ما ينعكس على جودة التعليم ونوعيته.

سنقرأ في المقابل أن دولة مثل مصر تعيش على أقل من 6% من المساحة الصحراوية الشاسعة وتصل اليوم على هذا الشريط السكاني الضيق المكتظ إلى نحو 90 مليون نسمة. تقول الأرقام إن مصر تشهد ولادة أربعة أطفال في الدقيقة الواحدة كأكثر نسبة تكاثر "لا نمو" في الدنيا بأسرها وهذا يعني أن مصر مضطرة لفتح فصل دراسي جديد بينما أنت تقرأ هذا المقال في خمس دقائق. الرقم المخيف، وحده، بأي معيار للقراءة يعني استحالة نجاعة أي فكرة للتخطيط التنموي في بلد تقول أرقام وزارة صحته إن لديها جرعة تطعيم واحدة لكل ثلاثة أطفال.. هذا إذا ما غضضنا البصر عن بقية الخدمات الأساسية.

تقول أرقامهم أيضاً إن ربع الشعب المصري يشرب المياه مباشرة بلا تنقية وتكرير ولعله لهذا تتصدر مصر دول الكون في فيروسات الكبد الوبائي، بينما تأتي اليابان ثانية الدنيا كأقل نسب هذا المرض بعد فنلندا.

والخلاصة أننا في المجتمع السعودي نمضي على ذات الطريق دون أن نختبر هذا الرقم الكوارثي كأعلى نسب الأمم كلها في معدل النمو السكاني. كل ساعة من الزمن تشهد ولادة عشرة أطفال في هذا البلد وهذا يعني فصلا دراسيا جديدا كل ساعتين وهو ما لم ولن نفعله. هذا الرقم هو أخطر أرقام إعاقة التنمية ورأس أمراضها.. وللأسف الشديد، محظور حتى مجرد التوعية بحجمه وأبعاده ونتائجه.