كنت أحكي لوالدي العجوز ـ رحمه الله ـ عن قراءتي في الكتب لفكرة اجتماعية عامة، أو نظرية سياسية تشرح الواقع الدولي، وكان يرد عليّ غالباً بالتثاؤب والنوم مع إشارة يده بالانصراف قبل أن أكمل حديثي الممل! أو يرد بحكاية قديمة من التراث التاريخي في الجزيرة العربية، وقد حكيت له يوماً عن كتاب الأمير لميكافيللي ونظريته (الغاية تبرر الوسيلة)، فقال: لكن الغاية تبقى عاجزة إن لم تكن لها أرضية من حاجة الناس وأمزجتهم، ليستجيبوا لغايتك التي ترجوها، ومن يتجاهل حاجة الناس ومزاجهم سيسبقه غيره لتلبيتها، والفيصل ليس في (الغاية تبرر الوسيلة) بل في اكتشاف الوسيلة الأنجع والأعمق لغايتك الصادقة لا المتوهمة قبل أن يسبقك غيرك إليها، وإلا فالناس لا تجهل هذا بفطرتها دون حاجة لكتاب هذا الإيطالي الماكر، والمكر وحده لا يكفي بل الرهان على الموقف الأصيل الذي يتوافق ومزاج الزمان والمكان.
قلت له: فإن عاندت الزمان والمكان؟ فأجابني: لا ينفعك مالك ولا رجالك ولو كنت بقامة هامان وقارون، المال والرجال بلا رؤية وبصيرة يملكها العمالقة الكبار، ليس إلا ضياعاً وشتاتاً للمال بأيدي الصغار والأقزام، أما الرجال فبين اثنين فإما رجل يخرج لك وهو في ذمتك شهيداً لأجلك إن كنت صادقاً أو شاهداً عليك إن كنت كاذباً، وإما يخرج عليك وهو في ذمة التاريخ يجعله بطلاً أو خائناً، ثم حكى لي عن قبيلة اجتمعت وقال شيخها نريد تزويج فلان، فرد كبار القبيلة (فلان الدرويش) جزاك الله خيرا، والله يستاهل، وقرروا التبرع له ببعض رؤوس الأغنام، كرأس مال يبدأ به الدرويش حياته، وتزويجه بإحدى "خبيلات" القبيلة (ضعيفات العقل، درويشة مثله ويتيمة).
تزوج الدرويش بمن اختاروها له، وقام فلان الدرويش برعاية غنمه ولم تنجب زوجه سوى طفل واحد، فلقد تزوجا على كِبَر، وكان شيخ القبيلة يرسل لأفراد قبيلته أحد عبيده يطلب منهم الجباية حسب الترتيب المتعارف عليه بينهم، التي قررها هو وبقية كبار القبيلة، سارت الأيام والسنون وأرسل شيخ القبيلة عبده لطلب رأس من حلال (فلان الدرويش) كما هو معتاد، وصل العبد ووجد الدرويش مع غنمه ومعه طفله الصغير يلعب مع صغار الغنم، دفع الدرويش رأس الحلال للعبد وأبلغه برسالة شكره وتقديره لشيخ القبيلة على سابق فضله، بعد خمس سنوات، عاد العبد من جديد ووجد الطفل هو راعي الغنم، فقصده وطلب رأساً كعادته في الضريبة على عموم القبيلة كما يأمره بذلك سيده، رفض الصغير أن يسلم العبد أي شيء من الحلال وقد بكى صارخاً خوفاً من العبد، جاء الدرويش ورأى خصومة ابنه الصغير مع العبد، فغضب على ابنه وعاقبه، واعتذر من العبد وأعطاه ما أراد، بعد سنوات تجاهل الشيخ بقية كبار القبيلة، وظن في نفسه أن كبار القبيلة قد أصبحوا مجرد أتباع مطيعين طيعين له، بعد أن كثر الخير في القبيلة، وبدأ في تكرار الجباية دون أن يوضح أهدافه منها، تفاجأ العبد عندما وصل لغنم الدرويش بشاب باتل بين الحلال ومعه عصاه، أخبره عن نفسه وقال: أنا مرسول من شيخ القبيلة، لأخذ المعتاد كل خمس سنوات من حلالكم وهذا ما يضركم ولا يؤثر عليكم، رفض الشاب ورفع العصا على العبد، حضر الدرويش ونهر ابنه وقال للعبد: لا تخبر شيخنا بالقصة ولدنا جاهل وما يعرف قدركم، وخذ من الحلال الرأس التي تريدونها و"تجملنا" من شيخنا، عاد العبد وقص لسيده الحكاية: فضحك شيخ القبيلة وقال: (ابن الخبيلة والخبيل ما يخوَّف، بيت دراويش ضعوف ما معهم إلا هالولد المسكين وهو مثلهم خبل، أنت تحب تكبِّر الأمور).
طبعاً، مع مرور السنوات استقل شيخ القبيلة بالرأي دون أولى النهى من قبيلته واعتاد ذلك، وأصبح حضور كبار القبيلة مجرد حفاظ على شكليات قديمة لم يعد لها على الأرض ما يجعلها ذات معنى سوى في المجاملات الفارغة، وكانت القبيلة تدفع ما عليها لهذا الشيخ، وعند السنة الخامسة حضر العبد كعادته لابن "الخبيل والخبيلة"، ليجده رجلاً على فرسه ومعه بندقيته بين حلاله إبلاً وغنماً، فاتجه العبد إليه وأخبره بأن سيده أرسله لعادته في الجباية، فرفض الرجل وتصارخا فقدم الدرويش العجوز ناهراً ابنه، لكن ابنه رد عليه وقال: ارجع مع أمي والحلال ما عاد حلالك هذا حلالي أنا، والعبد يرجع لسيده أطيب له، ورفع البندق بوجه العبد، فرجع العبد من حيث أتى، وأخبر شيخ القبيلة بما حصل، وتسامع كبار القبيلة بما فعله ولد فلان الدرويش، فأرسلوا أبناءهم كحلفاء له فيما لو أراد مقاومة شيخ القبيلة بعد أن ضاقوا سراً بطريقته في تجاهلهم، وعندها اجتمع شيخ القبيلة بوجهاء قبيلته وأعطاهم الخبر، ظهر انقسام الصف في القبيلة، واشتد الموقف، وتدافعت القبيلة بعضها بعضاً لتنتهي حروب الجاهلية بينهم بانشطار القبيلة نصفين بين الشيخ القديم، والشيخ الجديد الذي كان ولد الدرويش ابن "الخبيلة والخبيل".
في السياسة، كما في علم اللغة، تجد من اللغويين من يعرف بحور الشعر وعلم النحو ومعاني الكلم، لكنه رغم كل هذا لم يكن ولم يصبح خطيباً مفوهاً ولا شاعراً نحريراً، رغم أن الخطابة والشعر هي حقيقة التماس العقلي والروحي مع الناس، وما عداها صناعة بعدية وليست قبلية.
ما ذكرته أعلاه هو تفكيك وتعرية للعلوم السياسية ومدارسها، ففي النهاية يبقى (فن) الممكن هو الفيصل، ولنلاحظ كلمة (فن) التي تقتضي الموهبة أكثر مما تقتضي المعرفة والدراسة وتعللات كرم المحتد، وعليه فمن ذا الذي يستطيع قراءة الواقع السياسي من خلال أرضه الصلبة، لا رماله المتحركة، وأرضه الصلبة هي المصالح فقط التي تعنينا وتعني من حولنا، أما رماله المتحركة، فهي الأخلاق والدين واللغة وعموم القيم المشتركة.... الخ التي يذر السياسيون بها الرمل قبل الرماد في عيون بعضهم.
المصالح هي الفيصل، وأي طرح طائفي أو عرقي، أو حتى "ديموقراطي" ليس إلا لغة تساس بها الجماهير، أما في القاع حيث الأرض الصلبة، فهناك المصالح الجافة الأنانية.
الناس في ذمة أولى النهى فيها، تنصف من نفسها ولنفسها سواء بسواء، والمصالح فيصلها بين الدول القوة بالذات، والنفوذ بالأحلاف، أما فيصل المصالح بين الشعب ففي فطرة العدالة والكرامة وحب الحق والخير والجمال، الذي جبلت عليه الأنفس، ولا وراء ذلك إلا حظوظ اللئيم، في رداء الراهب يسوق به الدهماء، عبر الملاحم والمواعظ، أو هندام السمسار، يسوقهم بالدرهم والدينار، لتضيع الدهماء بين وهم الملحمة، ووهم الحاجة، والطائرة بدون طيار من سهول كابول إلى جبال اليمن عبرة لأولى النهى، فيمن مات (شهيداً) أو (قتيلاً) أو حتى (حتف أنفه)، فالقبر لا يضيق بالأجداث تحت أي مسمى أو دين أو طبقة منذ ضحايا الحادي عشر من سبتمبر مروراً بشنق صدام، وانتهاء ببن لادن، حتى حتف القذافي، فتوزيع الألقاب قضية المتنازعين على التراب لا الساكنين فيه، والقوى العظمى ترجو لنفسها قبل أن ترجو لغيرها، فالشوك على جلودنا، ودمنا بددٌ بالشوارع، ولورانس العرب عاد حيّاً بثياب جديدة، فلم نكرر الأخطاء!.