في بداية إقامتي في لندن، ركبت الباص في الصباح، لأتفاجأ بأني لم أعد تعبئة بطاقتي، ولم يكن معي نقد.. رفع السائق كتفيه بمعنى أنه ليس في يدي شيء، وبلغة أخرى: انزلي من الباص.. في تلك اللحظة سمعت صوتا خلفي يقول من أين تريد أن تحضر لك صرفا الآن والمحلات مقفلة، هل ستنزلها هنا؟ امتعض السائق وأشار بيده أن اركبي، دخلت وتعرفت على صاحبة الصوت عائشة التي أصبحت، إن صح التعبير، أختي.

عائشة صومالية من أوائل الذين قدموا لبريطانيا بعدما منحت الصوماليين حق اللجوء وتقاسمتهم بلاد أوروبا بعد أن ضاع الوطن في لحظة ما.

علمتني عائشة أن أستفيد من حماية القانون البريطاني، لإنسانيتي كبشر، كما أنها تذكرني دائما ألا أنسى أننا مسلمون، ولا يجب أن يؤتى الإسلام من جانبنا، وفي لحظات كثيرة تبدو أكثر عاطفية، تتحدث عائشة عن الأرض التي لم يعرفها أطفالها وتحاول تذكيرهم بها متغافلة عن ذكر ما تفعله "منظمة شباب" في جزء منها، وأقول لها متسائلة: هل تلك الروايات التي نقرؤها في الصحيحين عن عدم تطبيق الشريعة في بداية الإسلام، أو بالأصح عدم نزولها أو تعطيلها من قبل عمر رضي الله عنه في عام المجاعة أمر لم يسمع به هؤلاء الشباب، الذين ينشرون الإرهاب خارجا، ويمارسون تطبيقا قاسيا ومشوها للشريعة الإسلامية، يعتم صورة الإسلام أكثر في العالم ويمنع استقرار بلاد يحلم أهل الشتات الصومالي بصلاحها فلا ترد سوى بـ"آه" عميقة بعمق أحزاننا كمسلمين وعرب.

أعاد الصوماليون نشيد: أيها الصومالي استيقظ، ليكون النشيد الوطني للصومال بعد أن غاب عشرات السنين حتى قبل انهيار الصومال، حيث كان النشيد الأول للدولة، وهو تصرف ذكي، فالكلمات تحمل مغزاها وتحرك المشاعر الدافعة للعمل والنهضة وتستحث القلوب، وإن كانت تحتاج النفوس لبيئة صالحة لتعمل.

لقد مثلت بريطانيا هذه البيئة الصالحة ليستيقظ الصوماليون الذين أعترف لهم في الجامعة وفي أي مكان ألقاهم به بذلك، أعني أني متفاجئة بهم شبابا وفتيات أنيقين بمظهر إسلامي، متطلعين للعلم، يعملون ليعيلوا أنفسهم ويدفعوا تكاليف دراستهم الجامعية، وفوق ذلك يسيطرون على النشاطات الطلابية فيعلمون القرآن ويتحدثون عن سورية وعن فلسطين وقضايا الإسلام الكبرى.

في بريطانيا تسقط عبارة "كما تكونون يول عليكم"، حيث تمد الحكومة البريطانية يديها للشعب الصومالي ليكون كما يليق به لتثبت أن الصومالي أو المسلم الذي يعاني في كل العالم من العنف والسجن وكبت الحريات، يستطيع أن يكون عضوا راقيا ونافعا لمجتمعه.

تقول عائشة إنهم عندما وصلوا حوربوا من قبل البريطانيين السود، ربما لأنهم جميعا من أفريقيا، لكن الصوماليين استطاعوا اكتساب ثقة بريطانيا وشعبها ببعدهم عن المخدرات وجرائم القتل والمتاجرة بالجنس فكسبوا احترام الجميع.

عندما حضرت فيلم "كابتن فيليبس" وكانت عائشة قد سمعت عنه، وأنه يحكي شيئا عن الصومال، فلما أخبرتها في الهاتف بأنني للتو خرجت من السينما وقد حضرت الفيلم، ردت بصوت حزين: "هل شتموا الصومال فيه"، ضحكت وقلت: لا لم يفعلوا.

الفيلم يحكي عن قصة حقيقية، حيث مجموعة من القراصنة يحتجزون سفينة أميركية وقائدها ثم يتم إنقاذه من "المارينز"، وكأي فيلم أميركي لا يقول الحقيقة كلها، لكن كان هناك بعض الإشارات لها بقدر ما تسمح به هوليوود.

في الحقيقة إنني حضرت الفلم لمشاهدة توم هانكس لكنني انتهيت معجبة بأداء الممثل الصومالي برخاد عبدي بدور عبدالمولى، الذي يشدك منذ أول لحظة بسرقة الكاميرا من توم هانكس.. وجهه، عيناه، وشيء من الحزن والخوف فيهما، القرصان عبدالمولى كعربي يجيد سؤال من أين أنت؟ يسأل الكابتن فيليبس متجاوزا أميركيته فيرد إيرلندا، فيعيد عبارة قصيرة ذات مغزى بعيد ومؤلم جدا يقول No games Irish لكن الألعاب لا تنتهي كما في الواقع، حيث يختلف الصوماليون بسبب كابتن فيلبس.

في الفيلم يقول عبدالمولى: إنهم مجرد صيادين، فيرد الأميركي: لستم مجرد صيادين، لكن الحقيقة أن أميركا أفسدت بحرهم، فلم يعد هناك سمك ليصطادوه لكن هناك سفن فاصطادوها.

تعمد المخرج إظهار القراصنة الصوماليين بالكثير من الضجيج، وعدم القدرة على التحاور.. كأنه يقول هذه مشكلتكم كعرب غير قادرين على الحوار، وتعمد إظهار قارب القراصنة كنقطة صغيرة أمام السفينة الضخمة، لكنْ الصوماليون ينجحون في اعتلائها كرسالة أخرى؛ ألا تستهينوا بهؤلاء.. إنهم قادرون على الإزعاج.

أنهيت الفلم بالبكاء ليس مع كابتن فيليبس الذي كان باكيا في آخر مشهد له، ولكن من انكسار عبدالمولى في المشهد الأخير ربما لأنه يمثل خيبتنا الكبرى حتى في السرقات والقرصنة لا ننجح.

رؤية عائشة تخبرني دائماً بأن النجاح له يوم آخر لا بد أن يأتي.