"اكذب واكذب واكذب حتى يصدقك الناس، وامنحني إعلاما بلا ضمير وطني، لأصنع شعبا "مشوش الوعي" فالحقيقة هي ما يصدقه الناس"، هكذا تحدث جوبلز وزير الدعاية النازي، وهذا أيضا ما مارسته منظومة غير مرئية تتألف من وسائل إعلام لها رسالة موجهة تسعى بدأب وإلحاح وأدوات احترافية لتوصيلها وترسيخها في أذهان الجمهور المستهدف الذي يُقدر بالملايين، ومعها منظمات حقوقية وحركات شبابية غاضبة تنشط بشكل منهجي لتستكمل تأكيد الرسالة عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي وصولا للشارع وحتى المقاهي.

بالطبع لا يحدث ذلك بشكل عفوي ووطني خالص، فهناك "محرك دُمى" ماهر لا يُفصح عن هويته ونواياه بالضرورة، لكن هناك من أعلنها صريحة مثل السياسي المُخضرم هنري كيسنجر بقوله: "إذا لم تستمع صوت طبول الحروب فلا بد أنك أصم"، وفق العبارة الشائعة لثعلب السياسة الخارجية بإدارة الرئيس الأميركي نيكسون.

المسألة بالغة البساطة ولن تكلف خسائر تُذكر بالنسبة لمحرك الدمى الذي رسم مساره عبر خطوات محددة منها كاستخدام عمليات استخباراتية خاصة واستغلال حركات شبابية مفعمة بالحماس لتزرع الفوضى والتشهير بالمؤسسات السيادية للدولة، وترويج "فزاعات" مثل "التكفير" و"التخوين" و"العمالة" هي الأدوات الخطابية لنسف حرية التفكير، وعليك الرضوخ بالمنظومة الفكرية والسياسية لهذه الحركات التي تمكنت واشنطن وحلفاؤها وعملاؤها خلال شهر واحد من تفجير معظم دول المنطقة، وبرمجة الغضب الشعبي ضد الأنظمة الفاسدة لإشعال ثورات تُشكّل إرهاصات الحروب الجديدة، التي بدأت في تونس وتعاظمت بمصر، لتصل لذروة الصراع بأوكرانيا.

في حرب العراق خسرت أميركا 4408 قتلى، وأصيب 32 ألف جندي وفق تقارير البتاجون الذي خصص 770 مليار دولار لغزو العراق، التي دفعت صانع القرار الأميركي للتفكير عبر آليات جديدة لخوض حروب دون تلك الفاتورة الباهظة، وبلورة مراكزها البحثية فكرة مفادها "تصنيع مارينز محليين" خضعوا لدورات تدريبية على أمر يبدو للوهلة الأولى ساذجا، وهي "ألعاب الكمبيوتر" التي تُحاكي ساحات القتال، ومواجهة الأمن بعدما تمت برمجتهم فكريا ولوجستيا ليصبحوا "جنودا بارعين" ووقودا للحروب الأهلية بالمنطقة.

لم يعد "البنتاجون" مضطرا للدفع بالبوارج وحاملات الطائرات العملاقة وعشرات الآلاف من قوات المارينز بعد تأهيل "مارينز محليين" وببعض التأمل سيكتشف المرء ثمة علاقة وثيقة بين هؤلاء وعناصر القاعدة، رغم الاختلاف الأيديولوجي بين حركة مثل "الثوريين الاشتراكيين" و"السلفية الجهادية"، فأهدافهم مشتركة حتى وسائل تنفيذها تجري بتناغم يوحي بأن هناك "مهندسا مُستترا" تمكن ببراعة جعل النقيضين ينحيان خلافاتهما الأيديولوجية للعمل بتناغم لتحقيق نتيجة يراها كلاهما الهدف المنشود.

"كلما اقتربت القوانين من الواقع أصبحت غير ثابتة، وكلما اقتربت من الثبات أصبحت غير واقعية"، هكذا تحدث أينشتين، فقواعد اللعبة بين التنظيمات والحركات تستلهم الواقع حاليا وتنشط وفق معطياته، لهذا تُصبح آلياتها مُتغيرة ومتنوعة، لكن حينما يرتد كل فصيل لمرجعيته الفكرية، سواء بتحقيق الأهداف المشتركة أو الفشل فيها، فإن كليهما سيصطدم بالواقع، ليكتشفوا ارتكابهم "حماقة تاريخية" بخيانة منطلقاتهم الأيديولوجية، فما يتمناه الجهادي يناقض حلم "الثوري الاشتراكي"، وسيصبح "حلفاء المرحلة" خصوم المستقبل، وستدفع الأوطان ثمن هذه المغامرات الخرقاء، التي تفتقد لأبسط قواعد الوعي السياسي بتحديد طبيعة المعركة والحلفاء والخصوم.

أخيرا تبقى الإشارة إلى أن أبرز تقنيات "الجيل الرابع للحروب" هي بلورة "ذهنيات متناحرة" لدوافع عرقية، أو طائفية أو حتى سياسية للاقتتال فيما بينها واستنزاف قدرات الدولة وشيطنة مؤسساتها لتصبح في النهاية "دولة فاشلة" ترضخ لإرادة "مُحرك الدُمى"، الذي درّب وموّل مجموعات تُحقق سياساته باعتبارها "قيما إنسانية" وهؤلاء الذين تستخدمهم واشنطن في "مناخ مرتبك" تُخيم عليه أجواء السّرية وقواعدها التي تحكم أجهزة الاستخبارات ومنها مبدأ "العلم بقدر الحاجة"، فلا يعلم حقائق الأهداف والتمويل سوى قادة هذه الكيانات، بينما تتحرك قواعدها مدفوعة بنوايا طيبة، ظنا منهم بأنهم يُناضلون لإعلاء القيم النبيلة كالديمقوراطية وترسيخ منظومة الحريات العامة والشخصية وغيرها، ليكتشفوا ـ بعد فوات الأوان ـ أنهم اغتالوا أحلامهم بأيديهم.