تلال من المقالات والتقارير والكتب والمقابلات المُتلفزة استفاضت لدرجة الملل لرصد وشرح دور شبكات التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت فيما يُسمى (الربيع العربي) التي أصبحت أيقونتها، وفجّرت صراعات طبقية وجيلية ودينية وطائفية وغيرها، كما بلورت مجتمعاً افتراضياً خارج السياقات السياسية والاجتماعية التي عرفتها البشرية سابقًا، فصار المواطن يُحاسب المسؤول، والطالب يوبخ أستاذه، والقارئ يُحاكم الكاتب، ووصل الأمر إلى درجة عجز القوانين عن التعامل معها، بعدما أصبحت هذه الشبكات منصة تُطلق الأفكار الخلاّقة حيناً، والمخاطر المُرعبة أحيانًا أخرى.
وظلت مؤسسات السلطة التي انهارت بفعل (ثورات الإنترنت) تنظر إلى الأمر باستخفاف، فبرزت الفجوة بين الأجيال لتُحسم لصالح جيل تجاوز الخوف، لكن كانت هناك قوى خفيّة استغلته للحشد والتعبئة في سياق طراز جديد من الصراعات أدواتها لا تتجاوز شاشات أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، وتحول الفضاء الافتراضي لساحة كونية، انهارت معها الحدود التقليدية، وسطوة القوانين العتيقة، مما فرض ضرورة إعادة تأهيل أدوات السلطة لتقن التعامل مع هذا الواقع الحضاري الجديد.
بعض الحقائق تُعزز الرؤية التي أدق أجراس الخطر بشأنها، فمؤسسات السلطة التي تكلست، وفوجئت بما يحدث دون أن تفهم أبعاده، وعجزت عن التعامل معه، لجأت إلى أساليب عقيمة كقطع خدمة الإنترنت، لكن (الجيل الرقمي) تجاوز ذلك بمهارات تجهلها السلطة، ومرة أخرى تدخلت "القوى الخفية" لتوفر لهم بدائل للتواصل تجاوزت أدوات الأمن التي تنتمي لعصر ما قبل "المواطن الكوني"، الذي يتمتع بحالة (تواصل إنساني) لم تعرفها البشرية من قبل.
ولتتضح ملامح المشهد الافتراضي عربيًا فعدد مستخدمي (فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب) يُقدر بنحو 120 مليوناً شهرياً يُشكّل الشباب الشريحة الكبرى، لهذا دشنت إدارة الرئيس الأميركي أوباما ـ بمشاركة تركية ـ مبادرة أسمتها "الصندوق الدولي لمشاركة وصمود المجتمع"، ورغم تعمد تجاهل أي إشارة صريحة للإسلام لكن الهدف غير المعلن هو التحكم بالجماعات الإسلامية الراديكالية، واتخذت مقراً في ست دول غالبية سكانها مسلمون.
ولا تتوقف آثار "الحروب الرقمية" عند حدود تشكيل أو تشويش الرأي العام وصولا إلى استهداف برامج المعدات العسكرية، لكنها امتدت لقواعد البيانات الاقتصادية كمعلومات الشركات والبنوك، ناهيك عن القرصنة التي لم تعد لعبة الهواة بل أصبحت هاجساً يشغل اهتمام أجهزة الاستخبارات الدولية بعمليات التجسس والحروب الجديدة التي تشنها بالفعل من مصر لأوكرانيا.
أما أخطر آثار الحروب فهو استهداف (جهاز المناعة) لمؤسسات الدولة لأن قوى خارجية تستخدم أطرافها بتمويل وتدريب قادة الحركات الاحتجاجية، بينما تجهل قواعد تلك الحركات ذلك، فهي مجرد أدوات لإشعال الصراعات الداخلية، كما يفعل قادة التنظيم الدولي للإخوان الذين يوجهون أنصارهم لاستهداف مرافق الدولة استناداً إلى صراعات لا تتوقف عند حدود الدولة، بل تمتد لتطال شرائح اجتماعية تُمثل "الكتلة الحرجة" المؤيدة لنظام حكم يكفل الاستقرار الاجتماعي، ويؤمن مصالحها الاقتصادية.
ودولياً، لعله بات واضحاً أن الحروب الرقمية تتصاعد في ظل الصراع بين القوى الدولية والإقليمية، لإعادة رسم خريطة العالم وتوزيع مواقع النفوذ، وتستهدف تلك الهجمات الإلكترونية تحقيق نتائج على شتى الأصعدة لتكبد الدول المستهدفة خسائر قد تصل لانهيار مؤسسات الدولة، عبر هجمات منهجية لخلق حالة فوضى عارمة سواء في بياناتها أو نظم تشغيلها.
وهناك أيضاً ما يسمى "الحصار الرقمي" كأحد تقنيات الحروب الجديدة، وهو ما تتوقع معه "ساشا مينراث" من مؤسسة (New America) أن العدو الذي يقوض قدرة أجهزة الكمبيوتر التي نستخدمها يستطيع أن يضر بمجتمع يتزايد اعتماده على التقنيات، وسيضاعف معدلات الهجمات الرقمية.
من هنا أرى ضرورة تصدي الدول العربية لهذا الخطر المحدق بالتفكير في كيان مشترك لتوحيد معايير الأنظمة الإلكترونية، وتتبع محاولات الاختراق لدى حدوثها، لمعرفة مواطن الضعف وتعزيز الدفاعات، وحماية بيانات مؤسسات الدولة والشركات والبنوك وغيرها، فضلا عن رصد وتحليل مضمون الشبكات الاجتماعية بذهنية عصرية، تستلهم روح هذا الواقع الافتراضي الذي غير مفاهيم العالم في الحياة والحروب ووسائل التواصل وغيرها.