في شهر فبراير، كشفت وثيقة نشرها إدوارد سنودن، الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية الهارب، تجسس أجهزة الاستخبارات الأميركية والأسترالية على المحادثات الهاتفية لشركة محاماة أميركية تقدم الاستشارات للحكومة الإندونيسية في مجال المفاوضات التجارية.

وأظهر هذا الكشف أن عمل الأجهزة الاستخبارية لهاتين الدولتين، على الأقل، لم يعد مقتصراً على التجسس على المجموعات الإرهابية والمجرمين، ولا على السياسيين، بل امتدت أنشطتها لتشمل المفاوضات التجارية، لا للتحري عن أعمال مشبوهة، بل للوصول إلى أسرار تجارية فقط.

وحين تستخدم الدول الكبرى قدراتها التجسسية الضخمة لخدمة مفاوضيها التجاريين، فإن نظراءهم في الدول الأخرى يواجهون عقبة كأداء، ذلك أن المفاوض الأميركي، مثلاً، يستطيع معرفة مواقف وأسرار الجانب الآخر، ونقاط ضعفه وقوته، حتى قبل الجلوس على مائدة المفاوضات.

وكثير من هذا كان متوقعاً من قبلُ، ولكن حين ظهر أن التجسس امتد إلى التنصت على المحادثات بين المحامين وموكليهم، ثارت ضجة كُبرى في الأوساط القانونية، إذ إن من المفترض أن تكون الاتصالات بين المحامي وموكله سرية. ووصف قاض أميركي سابق هذه الحادثة بأنها "هجمة صارخة على القانون الأميركي". ومما هو أسوأ أن هذه الأعمال لم تعد مخالفة للقانون بعد التعديلات الأخيرة للقانون والتفسيرات التي أعطيت لها.

وتُظهر الوثيقة أن وكالة الأمن القومي الأميركية، ونظيرتها الأسترالية، كانتا تتجسسان على تحضيرات الحكومة الإندونيسية لمفاوضاتها التجارية مع الدولتين، بما في ذلك اتصالاتها مع شركة المحاماة الأميركية، التي يُعتقد أنها شركة (ماير براون) في شيكاغو. واتضح أن الجهازين كانا يعلمان أن التجسس يشمل تلك الاتصالات التي يفترض أن يحميها القانون لو كان طرفا الاتصال مقيمين في الولايات المتحدة، ولكنهما سمحا باستمرار التنصت، الذي نتج عنه حسب الوثيقة "معلومات مفيدة جداً للجانب الأميركي".

وكما هو معروف فإن معظم النظم القانونية توفر حماية خاصة للمحادثات بين المحامي وموكله، بحيث يستطيعان التحدث بحرية وسرية، دون أن يطلع أحد غيرهما على تلك المحادثات. ففي الولايات المتحدة مثلاً، ترسخ هذا المبدأ على مدى أكثر من مئة عام. ونادراً ما يجري خرقه على النحو السافر الذي نراه في هذه الحادثة.

وممن دان هذا التصرف القاضي السابق والمحلل القانوني المحافظ أندرو نابوليتانو، حين وصفه بأنه غير عادل لأنه يعطي أحد الجانبين أسرار الآخر دون علمه، وغير حكيم لأنه يضعف قدرة المحامين على خدمة موكليهم، الذين سيترددون في منحهم الثقة اللازمة لسرية المحادثات، مما يُضعف من الحماية الدستورية لإجراءات التقاضي.

فمن الواضح أن القانون الأميركي لم يعد الآن يحمي سرية اتصالات المحامين من تنصت وكالات التجسس كما كان سابقاً، إذ كان من المعتقد أن القانون يحظر استهداف الأميركيين بالتنصت دون إذن قضائي، بما في ذلك محادثات شركات المحاماة وغيرها. وسبق أن قال المسؤولون الأميركيون إنهم لا يحاولون تجاوُز هذا المنع عن طريق استخدام استخبارات الدول الصديقة، مثل أستراليا وبريطانيا وكندا ونيوزيلندا.

فالقانون الأميركي الآن، على ما يظهر، يسمح لوكالة الأمن القومي بالتنصت على اتصالات الأميركيين، إذا كانت مع أطراف خارج الولايات المتحدة، بصرف النظر عن طبيعة تلك الاتصالات. وكل ما هو مطلوب هو اتخاذ بعض الاحترازات المحدودة، مثل حذف ما يشير إلى هوية الطرف الأميركي في الاتصال (ولكن ليس الطرف الأجنبي).

وفي عام 2013، حسمت المحكمة العليا في واشنطن الأمر حين اتخذت بالأغلبية قراراً يصب في صالح أجهزة الاستخبارات، حين رفضت الطعون التي قدمها محامون ضد قانون صدر في عام 2008 يسمح في حالات معينة بالتنصت على المكالمات دون إذن قضائي. وكان بعض شركات المحاماة الأميركية ذات الحضور الدولي قد اشتركت في رفع القضية أمام المحكمة العليا، معترضة على القانون لأنه يجعل من الصعب عليها الحفاظ على سرية اتصالاتها مع موكليها المقيمين خارج الولايات المتحدة.

وبعد أن تعدل قانون التنصّت ليشمل إمكانية التجسس على اتصالات المحامين، عدّلت جمعية المحامين الأميركية قواعدها لتعكس ذلك التغيير، فأصبحت قواعد أخلاقيات المهنة التي اعتمدتها في عام 2012 تنص على مجرد أن "يبذل المحامي جهوداً معقولة" للمحافظة على سرية المعلومات التي يقدمها له موكله، بدل الالتزام الكامل بحمايتها.

ولذلك أصبح لزاماً على أولئك الذين درسوا في كليات القانون الأميركية أن يراجعوا ما كانوا يعدونه أمراً مسلّماً به، مثل سرية المحادثات بين المحامين وموكليهم، وعدم جواز التنصت على المحادثات الخاصة دون إذن قضائي.

وبسبب ما تكشّف من التجسس على مفاوضات أميركا التجارية مع الدول الأخرى، فإن من الحكمة أخذ الحذر دائماً، سواء كنتَ محامياً أو ممثلاً لدولة أو شركة. فعلى سبيل المثال، من المستحسن أن ترفض بدبلوماسية عروض الإقامة المجانية، وأي هدايا أخرى يمكن أن تستخدم للتجسس لاحقاً. ويقوم بعض الزملاء ممن عملتُ معهم باتخاذ احتياطات أخرى بالإضافة إلى ذلك، فلا يفشون مكان إقامتهم تجنباً لزيارتها من قبل ضيوف غير مرغوبين، وعندما يتحدثون في قضايا حسّاسة، يتحدثون همساً ويتأكدون من وجود مصدر ضوضاء قريب، مثل جهاز التلفزيون أو نافورة مياه، مما يجعل التنصت أكثر صعوبة.

وفي إحدى الزيارات الرسمية، عُقدت المحادثات في "بيت الضيافة" لإحدى الدول الكبرى، ولاحظنا أن الطرف الآخر لم يكن يأخذ ملاحظات كافية، ويتحدث بطريقة حذرة جداً، حتى في المحادثات الجانبية، مما يعني في الغالب أن المكان مجهز تجهيزاً كاملاً للتنصت على المحادثات الرسمية والجانبية.

وتُظهر حادثة التنصت على الإندونيسيين أن أي مكالمة وأي بريد إلكتروني يمكن اعتراضهما من قبل أجهزة استخبارات الدول الكبرى، بصرف النظر عن الموضوع، وبصرف النظر عما إذا كانت مشفرة أم لا. ولم يعد هناك بديل للاجتماعات وجهاً لوجه، وحتى عندما تكون وجهاً لوجه، ما زال هناك مجال للطرق التقليدية للتنصت، عن طريق وضع أجهزة متناهية الصغر في غرفة الاجتماعات.