شعبية جورج كولوني هائلة في أميركا، وغالبا ما تحظى أفلامه بمتابعة كبيرة وتفوز بجوائز مختلفة. وهذا ما حدث فعلا مع أحد أفلامه الأخيرة "UP ON THE AIR" الذي فاز حتى الآن بجائزة الجولدن جلوب وتم ترشيحه لعدد من الجوائز في الأوسكار. ولكن ما هو سر كولوني وهذا النجاح الكبير؟ سنحاول من خلال فيلم هذا الأسبوع التعرف على شيء عن هذا.

الفيلم قصة درامية كوميدية رومانسية يتصدرها البطل الذي يعيش أغلب أيامه في الهواء لا على الأرض. يسافر بالطيران كثيرا، حتى أصبحت حياته عبارة عن حقيبة سريعة ومطارات وفنادق. حياة فخمة وجذابة، نشطة وممتعة. رجل وسيم في وظيفة مرموقة يطوف الولايات الأميركية ويعيش في أفخم الفنادق ومتحرر من أي التزام عائلي أو غيره. حر منطلق طموح.. ولكن هناك شيء مفقود، هناك شيء غير موجود، يخطر أحيانا في البال ولكن سرعة الحياة كفيلة بإزاحته إلى وقت آخر. قد نقول إن الأرض هي المفقودة هنا. الأرض بوصفها الارتباط وقاعدة الثبات. هل يستطيع رايان بطل الفيلم أن يبقى معلقا في الهواء، أم أن جاذبية الأرض ستتغلب عليه في النهاية؟ سأترك الجواب للفيلم ولكن هنا دعونا نعود للفكرة الأساسية في الفيلم وهي الفكرة التي سبق أن أشرت إليها في مقالات سابقة وهي فكرة "العائلة" التي أصبحت أيقونة الأفلام الأميركية عالية المستوى. تحضر العائلة كقيمة استثنائية نكتشف في كل فيلم أنها أثمن ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان، هذا الرباط القائم على الحب هو كنز، من الخسارة الكبرى التفريط فيه. إذا وجدت الحب فلا تجعله يفلت منك، لا تجعل الصعوبات تعترض طريقك إليه، قاوم حتى النهاية. هذه رسائل تتكرر في السينما الأميركية من أجل مقاومة الحياة الحديثة، الحياة يعيش فيها حتى النخاع رايان بطل الفيلم. أسلوب الحياة هذا قد يحوّل الإنسان إلى كائن منغلق على نفسه، كائن لا يرى إلا ذاته، وهذا ما حصل مع رايان الذي كان يسافر كل يوم من أجل أن يخبر موظفي الشركة بأنه قد تمّ طردهم من العمل بطريقة احترافية جامدة. كل هؤلاء المطرودين للشارع لم يحركوا في داخله شيئا بسبب أنه معلق في الهواء وليس معهم على الأرض.

أسلوب كولوني في الأداء فريد. صحيح أنه يعتمد كثيرا على وسامته وأناقته، ولكن أيضا على قدرته على التعبير البسيط والأداء السلس. ينقل كولوني كثيرا من التعبيرات من خلال إشارات جسدية بسيطة ولكنها قادرة على التوصيل بشكل كبير. لا يتحدث كولوني كثيرا ولكن تعبيرات وجهه تتحدث في كل الأوقات، هذه اللغة تكون بالعادة حميمية ومؤثرة، خصوصا حين تقترن الكوميديا بالرومانسية بالدراما، التركيبة التي تحتوي الكائن البشري وتشبع الكثير من رغباته.

أحد أسرار كولوني أيضا هو اختياراته لأفلام ذات رسالة وقيم مهمة. هذا الفيلم على سبيل المثال فيه نقد عميق لعلاقات المال والاقتصاد والشركات الكبرى بالناس الذين يعملون في تلك الإطارات. في كثير من الأحيان أولئك الناس لا يعنون أكثر من أرقام خاضعة بشكل أساسي لحسبة الربح والخسارة. إحدى وسائل وأدوات تحقيق تلك النظرة المادية البحتة في السوق هي تحويل الفاعلين في السوق إلى آلات قادرة على ضبط عملها في إطار معادلة الربح والخسارة. هذه العملية تتم بتحويل الشركات إلى آلات ضخمة لا يديرها أحد في الواقع. أقصد أن يتحول كل العاملين في الشركات على مختلف مناصبهم، لمجرد منفّذين، لا يملكون تعديل أو تبديل القرارات. حتى الملاّك بسبب تعددهم واختلاط مصالحهم فهم عمليا غير قادرين على إجراء تعديلات جذرية في طبيعة عمل السوق، والشركات الكبرى الأكثر دورا وفعالية داخله. هذا الواقع يولّد شعورين متباينين لدى العاملين في تلك الشركات يمكن ملاحظتهما مع رايان. من جهة أخرى، يعطي هذا الواقع الأفراد نوعا من الإحساس بعدم المسؤولية الأخلاقية، بمعنى أنهم يشعرون بأنهم أمام واقع قاس أقوى منهم جميعا ولا يمكن تغييره بأي شكل من الأشكال. الفرد العامل داخل هذه المنظومة يبدو كملايين البشر المضطرين للعمل من أجل الحياة والحالمين بأن يستطيعوا التغيير أو تحسين الأوضاع نسبيا من داخل النظام وليس من خارجه. في المقابل هناك شعور بالتشيؤ. أي الشعور بتحول الفرد إلى مجرد شيء بدون مشاعر. رايان مع الوقت شعر بهذا الشعور، فعمله القائم على التخلص من الموظفين كان يطلب منه التخلص من التعاطف مع الأشخاص/الأرقام التي أمامه. التخلص من التعاطف مع الإنسان الذي أمامك هو من أعنف وأقسى القدرات التي يمكن أن يمارسها الإنسان. التأقلم والسلام مع تلك القدرة يجعل الإنسان أخطر كائن على وجه الأرض، بوصفه الكائن الذكي صاحب القدرات العالية بدون أي رقابة تجاه الألم الذي يمكن أن تنتجه تلك القدرة والذكاء. هذه الحالة المزدوجة كانت مؤذية لرايان وجعلت من حياته غير ممكنة الاستمرار، خصوصا حين بدت له في الأفق ملامح حب أو حياة عاطفية. الأكيد في تجربة رايان أنه لا يمكن له أن يستمر في عمله هذا وهو عاشق. الحب والعشق كانا من النقائض الأساسية لعمله الحقيقي. مثل هذه القضية تجعل من أعمال كولوني ذات تقدير لدى المتابعين بوصفها تلامس معاني حقيقية في تجاربهم الحياتية. البقاء في الهواء له نتيجة خطيرة وهي أنه يساعد الإنسان على رؤية الناس بأحجام صغيرة. النزول للأرض يجعلنا نرى أنفسنا مع الآخرين بشكل أوضح.