ما زلت أتذكر ردود الفعل الغاضبة التي تلقيتها قبل حوالي اثني عشر عاما، إبان إشرافي على ملحق "الرسالة" بصحيفة "المدينة"، وطرحنا وقتها تحقيقا عن إمكانية عصرنة خطب الجمعة، وهل بالإمكان للخطيب في البلاد التي لا تتحدث العربية الخطبة باللغة الأعجمية؟. وهل من الممكن ترجمة الخطبة للجاليات التي لا تعي ما يقول خطيب الجامع؟. وتساءلنا عن إمكانية استخدام الخطيب لـ"الباور بوينت"، وإيجاد شاشة عرض عملاقة بالمسجد، يستعين بها لإيضاح فكرته. طرحنا تلك الأفكار كنوع من التجديد والمواكبة العصرية للتقنية، سعيا لتمكين الخطيب من شدّ انتباه الحضور – وقد سرحوا في خيالات بعيدة - وإيصال رسالة الخطبة لهم.

بالطبع كنت أحد الملايين السعيدة من الحدث التاريخي الذي تمّ في خطبة الجمعة الماضية بالحرم المكي، ودعوت الله كثيرا لمعالي الشيخ عبدالرحمن السديس –ليس مثلي يدعو لمثله ولكني فعلت- وشكرته على خطوته، فقد قامت شؤون الحرمين مشكورة بترجمة الخطبة عبر اللغتين الإنجليزية والأوردية للمصلين، يستمعون لها عبر سماعات الأذن، متمنيا توسع الفكرة عبر اللغات الفرنسية والروسية والصينية والإندونيسية وبقية لغات العالم الكبرى، وبث تلك الترجمة في قنوات "القرآن الكريم" و"السنة النبوية" والأقنية الفضائية الإسلامية، كي تصل قيمنا لكل العالم.

الحقيقة، أن كثيرا من المشروعات عندما تطرح في البداية تكون لها ردّات فعل مضادة عنيفة، تستخفّ الفكرة وتستهجنها، لأنها مخالفة لما جرت عليه العادة، وصادمت ما درجنا عليه. لكن مع مرور الوقت، وإدراك العقلاء – الذين عادة تغيب أصواتهم في السجالات تلك - يبدؤون في أخذ زمام المبادرة، وقد تلمسوا الجانب الإيجابي فيها، وأعادوا التأمل فيها، وأخضعوها للدراسة والتقويم، وقدموها للمجتمع ناضجة وقابلة للتطبيق، فيما المعترضون خبت أصواتهم رويدا رويدا.. سنة كونية تمضي أبدا.

أتمنى أن فكرة الترجمة هذه تتوسع، ويبادر بتطبيقها أحبتنا خطباء الجُمع في الجوامع الكبيرة بالمدن الرئيسة، وحتى بقية المدن في مملكتنا الغالية بتحديد جامع واحد في كل مدينة، وليت وزارة الشؤون الإسلامية تقوم بتشجيع مثل هذه المبادرات، بل وفي تبنيها، ومساعدة إخوتنا المقيمين الذين لا يفهمون ما يقوله خطيب الجمعة، وقد استرسل في خطبته وأطال، بل واستخدم لغة قس بن ساعدة أو زياد بن أبيه، واستعجم حتى على العوام من بني جلدتنا، وفوّت مصالح عديدة عبر استعراض لغته الأدبية العالية، أو خطابيته التي فوق مستوى المصلين الذين هم عادة أخلاط المجتمع.

من وجهة نظر شخصية صرفة، أرى أن خطبة الجمعة لدينا تراجع دورها في التأثير على الناس، والأسباب عديدة، منها سطوة وسائل الميديا والإعلام وتجذرها في حيوات الناس، ولكن ثمة جانب أحمّل فيه وزارة الشؤون الإسلامية هذا التقصير، وذلك بعدم اهتمامها بخطباء الجمع إلا في فصلهم، وقلة الدورات التي تسعى بالارتقاء بقدرات الخطيب، وإخضاعه الإجباري لدورات تأهيلية مركزة، فخطيب مفوّه ممتلك لأدوات التأثير، ولديه الكاريزما العالية؛ يفعل ما لا يفعله الإعلام.

تدوير الخطباء بين الأحياء من الأفكار التي طرحت، فما الذي يمنع من أن يلقي الخطيب لمرة واحدة في الشهر خطبة في حيّ آخر، بعد تحديد مستوى الخطباء وفرزهم، وعقد لقاءات شهرية، يقوم المُجيد منهم بتقديم تجربته للآخرين من زملائه، وهكذا دواليك لنقل الخبرات.

هناك الخطب الجاهزة الباردة المعلبة التي ينسخها الخطيب من الإنترنت، ويقرؤها لكأنما نحن في حصة مطالعة في فصل سادس ألف بمدرسة ابتدائية، دون أي اهتمام بتلمس حاجات الناس، دعك من التطويل في الخطبة، إذ لو خضع هذا الخطيب لدورات شرعية أيضا، وتعلم الفقه النبوي في خطبة الجمعة، وسيق له فقه الحديث الصريح الذي رواه مسلم في صحيحه: "خطبنا عمار فأوجز وأبلغ، فلما نزل، قلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست، فقال إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان سحراً) "، لربما رحم الخطيب الناس، وانتبه لتفويته مصالحهم.

ها أنا أتذكر كيف كنا ونحن في مراحلنا الدراسية الأولى، بسنيّ أعمارنا الغضة تلك؛ نتسابق للصفوف الأولى في مسجد "الخياط" بحارتنا الشعبية بمدينة "الطائف" المأنوسة أيام الاختبارات، ونتواص مع لذاتنا بالتبكير، لأن إمامها الطاعن في السنّ الشيخ عمر يماني -يرحمه الله- كان يخصنا كطلبة مدارس بالدعاء العميم، ويستفيض في ذلك أكثر من الدعاء على اليهود والنصارى، ونحن نؤمّن بكل جوارحنا، ونذهب لإكمال مذاكرة دروسنا، وقد أفعمنا بالأمل والثقة والطمأنينة. ما قصدته هنا أن خطيب الجامع إن راعى أحوال المصلين أمامه، وتلمس احتياجات الحيّ والمجتمع الصغير حول المسجد، لكان أبلغ وأقوى في إيصال رسالته.

أحبتنا الخطباء، خصوصا من حديثي الأسنان، وقريبي العهد بالخطابة، وقتما يخضعون لدورات تدريبية في إعداد مادة الخطبة، ويقرؤون لمثل ديل كارنيجي في كتابه الشهير (فن الخطابة) وهو يقول: "حدد موضوعك مسبقاً حتى يتسنى لك الوقت للتفكير به مراراً. فكّر به طيلة سبعة أيام، واحلم به طيلة سبعة ليال. فكّر به أثناء خلودك إلى الراحة، وفي الصباح، وأنت تستحم. فكّر به وأنت في طريقك إلى المدينة، أو بينما تنتظر المصعد، وعندما تكوي الثياب، أو حين تطهو الطعام، وناقشه مع أصدقائك واجعله موضوع حديثك، واسأل نفسك جميع الأسئلة الممكنة التي تتعلق به". تصوروا لو تعلم أحبتنا الخطباء ذلك، فأية خطبة جمعة سيلقونها، وأي تأثير هائل سيحدثونه على المصلين؟.

بكل أمانة كنت متفائلا بمعالي وزير الشؤون الإسلامية بأنه سيحدث نقلة كبيرة في الوزارة، وأنه سيترك بصمة كبيرة تذكرها الأجيال له، بما فعل بعض من الوزراء الخالدين، وللصدق أنه قام ببعض الجهود، بيد أن الشيخ صالح آل الشيخ وهو سليل العلماء وربيب دور العلم الشرعية، ننتظر منه المزيد في خدمة الدعوة والعلم الشرعي في المملكة، والنوازل علينا تتكاثر، وتُمطر الدعوة والدعاة من كل الجهات، ووزارة الشؤون الإسلامية هي المظلة لهم، وواجباتها مضاعفة، بين الغلاة المتشددين الذين ابتلينا بهم، والمميعين الذين يريدون خنق الدعوة، دعك من الملاحدة الذين تكاثروا بفعل عدم ردة فعلنا الإيجابية تجاههم. وهي نصيحة صادقة لمعاليه –ويعلم الله حبه ومنزلته- بتذكيره بميثاق الله على العلماء.

ما فعلته شؤون الحرمين عبر الترجمة خطوة تأريخية مقدرة، ربما حفز أحبتنا في وزارة الشؤون الإسلامية أن يقوموا بدورهم بالنهوض بخطبة الجمعة وإعادة مكانتها.