فهد الأحمري


حدثني صديقي "سالم" قائلا: حين كنت متشددا، كان فكري مسلوباً وشعوري منهوباً. شخصيتي غائبة عن العقلنة والاستقلالية، حاضرة في التقليد والمحاكاة.

كنت غائبا عقليا عن القراءة الخاصة لكبريات الأمور فضلا عن صغائرها، حاضرا فقط لتنفيذ إشارات أحد الرموز قبل أن يهم بالقول أصلا. كان بعض هؤلاء الرموز يحاول أن يقدم لي الدليل النصي يدعم قوله في مسألة ما، سألته إياها مثلا تقديراً منه لعقلي فأعاجله "لا أحتاج ذلك، طالما هذا رأيك"!

كنت ذاتا أعيش خارجا عن الحالة الذهنية، حيث استودعت أفضل ما أملك "عقلي" للرمز والرموز والسادة والأسياد الذين استأمنتهم إياه بالدليل المفقود قطعيا ولاستأناسي بشخوصهم يقينا لكونهم يحملون الحقيقية المطلقة فهم الأرباب ونحن قطيع الرعية.

ويردف صديقي: كان يكفي أحد الرعية أن يقول لصاحبه رأيا ويعزوه لأحد الأرباب ليكون تسليما مطلقا باعثا للطمأنينة من شيخ الجماعة الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وعند محاولتك إعمال عقلك في قليل من التأمل في المسألة فأنت تلامس خطورة قصوى لأن التفكير هنا جزء من الاجتهاد الذي لا يجوز إلا للزعيم الروحي، حيث لحمه مسموم وجزاء من يخالفه معلوم.

كنت أستغرب ممن يريد أن يحاور في مسألة ظنية اختلف فيها أصحاب المذاهب الأربعة بينما شيخي يرى أن الحكم فيها حكم واحد قطعي لا نقاش فيه، لسبب بسيط جدا وهو أنهم نزعوا منا فكرة الحوار أصلا. فتجد أحدنا ضعيفا فكريا لا قدرة له على الحوار البتة. ولكون الحوار ينطلق من شخصية مستقلة محايدة لا ترى الرأي القطعي في المسائل ولا تحمل أحكاما مسبقة فكريا. وهذا يستحيل على هذه الشخصية لتماهيه في الرمز الواحد الذي تحوم حوله الحقيقة وتتلبسه العصمة وتحصّنه الحصون الربانية فلا ينطق إلا صدقا ولا يفعل إلا حقا.

ويستطرد سالم: كان الحرص على الشخص المستجد بيننا شديدا، وذلك خوفا من أن ينزلق في براثن الأحزاب الأخرى المتشددة، فيقومون بتكليف القدامى منا باحتواء هذا المستجد ليبقى تحت سمعهم وبصرهم كي لا يختطف فكريا. وهؤلاء القدامى بمثابة سدنة المنظومة، فهم السد المنيع بين أفرادها وبين التوجهات الفكرية واالرؤى الضالة الأخرى - بزعمهم - والتي تقيم خارج أسوار المنظومة الحزبية. وكان من ينزلق خارج هذه المنظومة يطلق عليه "منتكس" مهما كانت وجهته الجديدة حتى لو استبدل الجماعة تلك بمجالس كبار العلماء، فماذا قدم هؤلاء العلماء للأمة "بزعمهم" - سوى خلافات فقهية، من رفع السبابة في التشهد إلى حكم دخول الحائض المسجد.

و"المنتكس" هذا يكون مادة من مواد الأفلام المرعبة التي يتم ترويع أي "مريد" تسول له نفسه الآثمة الخروج عن التيار. فتروى ضده القصص والحكايات إلى أن يصبح في أسفل سافلين من الحياة التعيسة والظروف التي تكالبت عليه نتيجة إقدامه على الخروج عن الطاعة الحزبية.

ويختم صديقي سالم قائلاً: كان الرضا المفعم يتملكنا، وذلك للشعور المتناهي أننا تيار الحقيقة، ورموزنا سادة الحقيقة، وبالتالي فإننا نؤمن بملكية الحقيقة المطلقة واحتوائها بينما غيرنا في "غفلة" لا مناص لهم منها إلا أن يعثروا علينا ليعلموا أن وعد الله حق، لأننا يقين وغيرنا ظن. هذا الزهو والغرور الموهوم "دينيا" كرّس في ذواتنا التشدد لهذا الفكر الأيديولوجي أكثر وأكثر، وإحكام القبض عليه بالسلاسل، والعض عليه بالقضبان. وبالتالي فإن العائد عن ملتنا هو "المنتكس".