كنا نجهد لقراءة ما يكتبه "شعراً" فهو يتحدر من تنضيد مشحون بالفحوى، ومحتشد بالخبرات الإبداعية المثقلة بالكثافة والدهشة والاستكناه داخل نسيجه الشعري، وكنا حوله ننثر بعضاً من الألفاظ والتجارب غير الطازجة أو الناضجة، وذلك في صفحة يحررها الإعلامي طلعت محسن أبوجبال، رحمه الله، والذي قضى نحبه في الطائرة المحترقة عام 1400هـ. كانت الصفحة تعنى بإنتاج الشباب وتصدر عن صحيفة الجزيرة الأسبوعية قبل 45 عاماً.

فاروق بنجر يتمتع باقتناص الغريب من المفردات والصور والرموز، نظراً لفحولته اللغوية ومغامراته داخل الأصالة، في تركيب ذاتي يتسم بالحداثة دون إسراف أو انتهاك للنظام اللغوي المعياري، أو الاقتطاف الشائه و الاستدعائي من شجرة الأسلاف العتيقة: ويخلبنا الصمت المزجج بالشذا.. وتجأر أصوات بما جال في الجب، على خيط أشواط المحيط مباءة.. من النزق المنبث في موجة الشجب.

بهذه اللغة المتعالية والجسورة كان بنجر ينحت تجربته، دون أن يتعارض مع روح اللغة العذبة أو ينزع إلى المباشرة والاحتفاء بالمفردة المبهمة والعصية، فهو يلين ويذعن ويشف ويرق ويخلع عنه جبروته الشعري، حين يلامس أنساغ الطفولة الطافحة بالخصب والحميمية وسخونة المشاعر: "يا صديقي الصغير تطلع تر الأرض أحنى عليك.. وخذ قلة من مياه الينابيع وأرو بها الأرض تطلع لعينيك نبتاً صغيراً، فسنبلة، فبهاء لعينيك حيث يضيء الفضاء!.. يا صديقي الصغير، ستنمو مع الطير، تنمو مع الزهر فاعرف بلادك، إن الذي لا بلاد لعينيه لا أرض يحرثها ويضمخها بالندى والمطر! ماحل كالحجر هل ترى لك أرضاً تعاطرها بالندى؟ فالذي لا بلاد لعينيه لا أرض يدفع عنها الأذى قاحل كالعراء!"

جعل بنجر "الوطن" مكانة دلالية في أغلب قصائده، كأزلية مختمرة بالروح والوجدان وتشي بالخلود والتماهي: "وطني وأحن إليك فألقاك أنت الأحن" يرى أن الشعر رؤيا وأن أبعاد النظر إلى الأشياء في عمقها وشموليتها واستشرافها المستقبلي، تتجاوز الرؤية الذاتية إلى تلك الرؤية الكلية، ويعتقد أن الشعر تجربة لغوية جمالية مركبة، بمعنى أنها تبلور تناغم الوجدان الذاتي والوجدان الجماعي، في التكوين اللغوي الفكري وهذه التجربة في ما يسمى بالقصيدة الكلية، تستبطن المعطيات الفكرية والثقافية للشاعر.

لفاروق بنجر "ديوان فواصل للارتحالات- إيقاع الماء والأفق- زمن لصباح القلب- أطيار لأغصان الطفولة- مجموعة قصصية بعنوان "الحزن ليلة صيف"، والتجربة الرومانتيكية في شعر إبراهيم ناجي -دراسة-، مدارات لقناديل الرؤية -مقالات- في "النقد والشعر والتقنية الشعرية" وجميع هذه الأعمال ما بين مطبوع ومخطوط، ترى لماذا يزهد بنجر في الحضور الإعلامي، ولماذا تتوارى هذه القامة والقيمة الشعرية عن المحافل والمنتديات والدراسات النقدية والاستقطاب العادل؟ ما أقسى قلة الإنصاف لشاعر مثله!