الخطابة هي فعل الخطبة أو مخاطبة الذات «الجماعة» أو الآخر عن طريق كلام مرتب ومنمق فيه من السلاسة أو الجزالة وبلاغة القول وجاذبية المفردات، ما يجذب السامع إليه، ويندرج هذا تحت مسمى فن الخطابة المنبرية الدينية أو السياسية أو الإعلامية. أما الخطاب «الثقافي وليس النصي أو اللساني»، فهو جمع من المفاهيم والسلوكيات المترجمة بواسطة أقوال وأفعال ونظم وقوانين، على أرض واقع مجتمع ما. الخطابة في أي مجتمع قد تعبر عن خطاب المجتمع، أو هذا ما يجب أن يكون؛ ولكن نادراً ما يحدث ذلك، فالخطابة بطبعها مراوغة، وتخفي أكثر مما تعلن. أما الخطاب فهو واضح وبين للعيان؛ حيث هو عبارة عن سلوك وأفعال وأنظمة وقوانين، تترجم على أرض الواقع. إذن فالخطابة هي تسويق للخطاب، أو هكذا هي وجدت لتكون؛ ولذلك فلفهم الخطاب، يجب تحييد الخطابة جانباً؛ وتمحيص ما هو جار فعلاً على الأرض، لتمكين حضور الخطاب، فالشهادة على الشيء تأتي عبر معاينته لا عبر السماع به أو تصوره، وإلا تحولت لشهادة زور أو شهادة تعمية وتضليل.
ليس هنالك مجتمع، يصف خطابة من خلال خطبه بالسلبية؛ وإنما دوماً ما يجمله وينمقه بالمبادئ الإنسانية العظيمة؛ إلا في حالة عاش هذا المجتمع خارج نطاق التاريخ أو حدود الجغرافيا المأهولة بالناس والمتفاعلة معه عن طريق الاحتكاك أو التبادل الثقافي والمنفعي. قد تتقدم لغة الخطابة وتتحضر في مجتمع ما؛ بسبب تأثرها بالمحيط المتحضر بها؛ ولكن يظل خطابها الاجتماعي والثقافي جامداً، لا دخل له بما يحدث حوله من تطور سياسي أو اقتصادي أو علمي أو إنساني أو حقوقي ونحو ذلك. وهنا تنقسم الخطابة بين خطب تحاكم للخطاب، وخطب تحامي عنه وتكرسه، من قبل سدنة الخطاب المنتفعين به والمدافعين عنه. الخطابة تتقدم دوماً، في إصلاح ذاتها، على الخطاب بفعل وصول خطباء جدد ومجددين للمنابر الاجتماعية الجديدة؛ بسبب عدم تكيفهم المصلحي أو توافقهم الإنساني والحضاري معه.
في خطبنا المنبرية والإعلامية «الخطابة»، دوماً نكرر ونعيد ونزيد ونكرر من جديد، عبارات ومفاهيم إسلامية وإنسانية لا يمكن الجدال حولها؛ واصفين التآخي والمحبة والتآزر والتراحم والتلاحم بين مكونات مجتمعنا المسلم الأصيل، حامي وراعي أقدس بقع الأرض، الحرمين الشريفين أو مطالبين إياه به. وننبذ ونتحدث بإسهاب وإطناب واشمئزاز عن العنصرية المقيتة الجاهلية؛ التي فارقناها بنعمة الإسلام قبل ألف وخمس مئة سنة. ونرجع كل هذه النعم لديننا الإسلامي الحنيف؛ ونسرد أدلة وشواهد لإثبات ما نقول، مما تيسر لنا، من آيات كريمات من كتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وبلسان عربي مبين ومن أفعال وأقوال رسول الهدى والبشرية جمعاء «السنة النبوية المطهرة».
ولكن ما يحصل في خطابنا الاجتماعي الواقع والمعاش على الأرض، الكثير من العنصرية العرقية والجندرية والطائفية والقبلية وحتى الجهوية؛ وهذا لا يمكن أن يخفى على ذي سمع أو بصر. وذلك من خلال الأنظمة التي تكبل حرية وحركة المرأة، والأحكام التي تخرج من المحاكم، لفصل زوجين، بحكم عدم تكافؤ النسب، ولو كان لهم أطفال وبقوة مؤسسات الدولة التنفيدية. كما أن الكثير من أبناء القبائل والأطراف يشتكون من التمييز ضدهم في تولي الوظائف والمناصب.
إذاً فنحن نقتات في خطبنا على خطاب متحضر، هو خطاب مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومجتمع خلفائه الراشدين. فالآيات الكريمات التي تنبذ التفرقة والعنصرية، وتحث على العدالة والمساواة هي خطب لخطابهم الإسلامي المتحضر؛ وليس لمجتمعنا الحالي؛ ولو كنا مثلهم مسلمين وخلفهم في الأرض والدين. مثل أن نردد واقعة تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاه زيد بقريبته القرشية زينب بنت جحش وتزويج ابنه أسامة من فاطمة بنت قيس القرشية. وتزوج الصحابي الجليل بلال بن رباح، وهو الأسود الحبشي، من أخت الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف. كما أن الذميين في عصرهم مثل اليهود والنصارى تمت حمايتهم والذود عن أماكن عباداتهم؛ حتى في المدينة المنورة، جوار مسجد رسول الله.
كما أن تولية المناصب كانت توكل في الغالب لذوي الكفاءات؛ بغض النظر عن قبائلهم التي ينتمون إليها أو مناطقهم التي أتوا منها. والمرأة حينها كانت حاضرة كلها وجلها؛ كمستشارة وموظفة وتاجرة، بدون شروط محارم ولا مغارم؛ سوى شرط العقل والكفاءة، كما هو مطلوب من الرجل. والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروات كانت في المجمل، حتى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هي السائدة. أي كانت الكرامة الإنسانية مصانة؛ كما لم تكن قبلها ولا بعدها بقرون.
إذن، فالمسلمون حينها عندما كانوا يوردون آيات من كتاب الله البينات أو أفعال وأقوال رسول الهدى الطاهرة، في تأكيدهم المساواة بين البشر ونبذ التفرقة العنصرية بمجمل أحوالها؛ فهم كانوا لا يجافون واقعهم؛ فلسانهم كان ينطق عن حالهم ويعبر عن أحوالهم. ومتى ما كان اللسان ينطق عن واقع الحال، أي متى ما توافقت خطب أي مجتمع إنساني كان مع خطابه؛ فهنا يمكن الحكم عليه بأنه مجتمع إنساني متحضر وشجاع، ومتصالح مع ذاته ومع الغير؛ ولذلك يكتسب المصداقية ويستحق الإعجاب به، بل والاقتداء به. وعلى هذا الأساس، فليس بمستغرب أن ذاك المجتمع المتحضر والمتصالح مع ذاته؛ كان نواة لأول دولة عربية دخلت التاريخ والحضارة الإنسانية من أوسع أبوابها.
والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا؛ هل فعلاً خطبنا تعبر عن واقع خطابنا أو خطابنا يعكس فعلاً خطبنا؟ الجواب وللأسف الشديد لا. وماذا يجب أن يعني لنا ذلك؟ يجب أن يعني لنا ذلك بأننا أمام معضلة كبيرة؛ ستعيقنا ليس فقط عن ولوج التقدم والحضارة؛ ولكن أيضاً العيش بتصالح مع الذات والآخر، وسنفقد مصداقيتنا ليس أمام الآخر فقط ولكن أيضاً أمام أنفسنا. وهذا ما سيجعل جيلنا الشبابي يبحث عن قدوة له غيرنا، من المجتمعات المتحضرة التي تتفق خطبها مع خطاباتها؛ وبالطبع تكون متصالحة مع ذاتها ومع الآخر، والذين هم أجيالنا الحالية، ناهيك عن القادمة.
زمن عجائب فانتازيا يضارب الخطابة بالخطاب لدينا؛ بأنه قبل أسبوعين، ظهر على شاشة أحد الفضائيات محام سعودي؛ استضيف كخبير ليتحدث عن حادثة عنصرية حدثت في مجتمعنا؛ وتحدث بإسهاب كيف أن العنصرية مرفوضة لدينا وتقف أنظمتنا وقيمنا ومحاكمنا سداً منيعا ضدها. وهذا المحامي، سبق أن شكك بتغريدة عنصرية طائفية له؛ ليس بنوايا أتباع أحد المذاهب، والذين هم جزء لا يتجزأ من نسيجنا الاجتماعي الأصيل؛ ولكن أيضاً شكك بنقاوة جيناتهم الشرعية وخرج منها برداً وسلاماً. فهل نصدق لسانه وبيانه الذي هو جزء من خطبنا؛ أم نصدق حالة ومآله والذي هو جزء لا يتجزأ من خطابنا؟