يقصد بمفهوم اقتصاد المعرفة: "أن تكون المعرفة هي المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي"، وعليه فإن اقتصاد المعرفة يعتمد أساساً على توفر التقنيات الرقمية في المعلومات والاتصال، على اعتبار أن الموارد البشرية المؤهلة ذات المهارات العالية هي "رأس المال" البشري الذي هو أكثر الأصول قيمة في الاقتصاد المبني على المعرفة. بحسب دراسة للدكتور مراد علَّة أستاذ الاقتصاد بجامعة جلفة الجزائرية، يشير فيها إلى أن تطور المجتمع البشري مربوط بثلاث ثورات تاريخية أساسية، تتمثل في الثورة الزراعية أولاً في الفترة الممتدة قبل 1800 للميلاد، ثم الثورة الصناعية التي جاءت بعد هذا التاريخ حتى عام 1957، وأخيراً الثورة المعرفية التي جاءت فيما بعد هذا العام حتى يومنا هذا.

وبما أن التقدم المعرفي هو أهم منعطف في تحويل المجتمعات إلى مجتمعات حديثة ومنتجة؛ فإن رأس المال الحقيقي هو الفكر البشري، على اعتبار أن الفكر البشري مرتبط بالإنسان منذ بدء تكوينه، ويعتبر الفكر عاملاً مهماً في خلق الخبرة المتراكمة التي ساعدت الإنسان في اكتشاف سبل الحياة حوله، وبذلك أسهم الفكر البشري المحرك الرئيس في كل الثورات الثلاث المشار إليها سابقاً، حيث نشهد اليوم اتصال اقتصاديات المعرفة في مناحي حياة الإنسان بما فيها تلك الثورات، حيث إن المعرفة تتشارك بشكل أساسي مع الزراعة والصناعة، وكل منجزات الحضارة الحديثة، التي تسير اليوم بشكل متسارع وطردي نحو التقدم البشري.

وتعد مجتمعات العالم الثالث مستهلِكاً رئيساً لمنجزات الحضارة البشرية الحديثة في كل جوانبها، ومنها ما شهد تغيراً ثورياً عبر الحقب الزمنية (الزراعة والصناعة والمعرفة)، ذلك أن الفكر والمعرفة يسيران بنحو أبطأ مما يسيران عليه في المجتمعات الغربية والشرقية الأكثر تقدماً، وربما تعد "أدلجة المعرفة" من أخطر الأمور التي تعيق هذا التقدم في هذه المجتمعات، وبالتالي تعيق أفراد المجتمع عن أن يكونوا منتجين وإيجابيين في الحضارة المعاصرة، التي تتميز بسمتين أساسيتين هما: ذوبان الحدود والحواجز المعرفية من جهة، ومن جهة أخرى نشوء ظاهرة الشراكة الإنسانية في هذه الحضارة.

غير أن الأمر السلبي في العلاقة ما بين مجتمعات العالم المتقدم والعالم المتأخر يتمثل في ثقافة الاستهلاك؛ وبالتالي البقاء في خانة المفعول به لا الفاعل والمتفاعل في هذه الحضارة، وينشأ عن ذلك بطبيعة الحال وجود ما أستطيع تسميته بـ(الاستعباد الحضاري)؛ حين يبقى الفكر البشري في تلك المجتمعات أسيراً لفكر متراجع من جانب، ومستهلكا لما ينجزه فكر مجتمعات أخرى من جانب آخر، ويستمر في عدم القدرة على التحول إلى الإنتاج المعرفي.

وعلى ضوء ذلك، لا بد أن تحل هذه المعضلة بالإصلاح الأساسي لهذه المجتمعات من خلال التحول إلى خطط استراتيجية طويلة المدى للتراكم المعرفي، بمعنى استقطاب الخبرة والإفادة من الفكر الآخر في المجتمعات المتقدمة ليس في مجال الصناعة فحسب، بل في كل جوانب الحياة بما فيها الاقتصادية والسياسية والثقافية، على أن قطب الرحى في القضية زاويتان لا يمكن تجاهلهما، وهما: إصلاح وتطوير جانبي الفكر السياسي والفكر التربوي بشكل أساسي وأوليّ.

فإصلاح الفكر السياسي يبدأ بتحقيق وجود مؤسسات المجتمع المدني، مما يتيح تدرج مجتمعات العالم الثالث لأن تكون مجتمعات مستقرة ومتفاعلة سياسياً، فلا يمكن للفكر أن يكون مبدعاً وخلاقاً وهو منشغل بجوانب أخرى، وفي الجانب الآخر إصلاح الفكر التربوي يكون من خلال إتاحة التفكير الناقد في المؤسسات التربوية، ومنها الأسرة والمدرسة والجامعة والروابط المجتمعية الأخرى.

لا يوجد حل سحري بطيعة الحال، إلا أن الولوج إلى عالم المعرفة واقتصادياتها يتم من خلال التعمق أكثر في هذا العالم الذي نعيشه اليوم، وهو عالم التحديث المستمر، حيث يستطيع الفكر أن يكون خلاقاً للمعرفة واقتصاداتها، وبالتالي ربما يمكن إنجاز حداثة عربية خاصة؛ إذ إن كل المجتمعات البشرية قد مرّت بحالات وفترات زمنية من التخلف والتأخر، غير أن النهضة تكون بالإفادة من التجربة والتراكم المعرفي.