"البناء الاجتماعي هو الإطار التنظيمي العام الذي يندرج تحته كافة أوجه السلوك الإنساني في مجتمع ما. ويتضمن مجموعة النظم الاجتماعية ذات القواعد السلوكية المستقرة، التي تحكم الأنشطة الإنسانية المتعددة في مجتمع ما.. وبمعنى آخر يمكن تعريف البناء الاجتماعي بأنه مجموعة الأطر التنظيمية التي تنتظم في إطارها كافة العلاقات الإنسانية، سواء تلك العلاقات البينية بين الأفراد أو الأشخاص داخل مجتمع ما، أو تلك العلاقات التبادلية بين الأفراد في مجتمع ما وغيره من المجتمعات، ويمكن القول، البناء الاجتماعي هو النظام الاجتماعي العام، وهو عبارة عن مجموعة النظم الاجتماعية الرئيسة والفرعية داخل المحيط البيئي لأي مجتمع".

هذه البنية المجتمعية تعتمد على مدخلات ثقافية وعقائدية وقيمية وسياسية وإنسانية، تتجمع هذه المدخلات في بؤرة الوعي العام، وهي أشبه بنقطة الارتكاز أو تجمع اللون في العدسة، التي تنشر صورا مضيئة بألوان أو صور مجملها من تلك المدخلات جميعها، في تجانس يخلق نوعا من الجمال العاكس، أما إذا ما كانت المدخلات متناحرة الألوان كان الانعكاس زائفا مشوها، وهو ما يطلق عليه علميا "الزيغ البصري".

وذلك إذا ما سحبنا المصطلح على الوعي العام المجتمعي إن جاز هذا التعبير الافتراضي، فإن الزيغ البصري في البنية الاجتماعية هي تلك الصور الزائفة والمشوهة والمشوشة، وإن صح التعبير "السرابية" عديمة الوجود الفعلي، فتظل طيلة الوقت باحثة عن دور مضللة للوعي.

والتعريف العلمي لمصطلح الزيغ البصري هو "عندما يكون منبع الإضاءة متعدد الألوان، تظهر على الخيال مجموعة من التشوهات اللونية بسبب التبديد اللوني للعناصر الضوئية، وتُسمى هذه التشوهات الجديدة الزيوغ اللونية aberrations chromatiques".

إذن، فالزيغ البصري هو إحلال صورة مزيفة مكان الصورة الحقيقية نتيجة تأثيرات خارجية. ولذلك قال تعالى "ما زاغ البصر وما طغى" الآية. أي أن ما رآه صلى الله عليه وسلم من أيات ربه الكبرى هي حقيقة لا لبس فيها ولا مخايلة.

فهل تتفشى ظاهرة الزيغ البصري والمخايلة في ثقافة وبعض شخوص مجتمعاتنا المعاصرة؟ وإن وجدت فما سبب هذه الظاهرة؟

إن ما يهمنا في هذا المصطلح، هو ذلك التشوه الذي يحدثه الزيغ من مخايلة أو إحلال زائف، إذا ما كانت المدخلات متعددة الألوان، متناحرة لا يقبل بعضها بعضا.

وإذا ما رصدنا الخطاب في وسائل الإعلام في جميع الوطن العربي دون استثاء، سنجده خطابا متلونا، والأخطر أنه متطرف على جميع الصعد، بين جميع أطياف المجتمع وبجميع ثقافاته.

وبطبيعة الحال، التعدد يثري البنية الثقافية، إلا أن التشدد في الرأي والمصادرة على الآخر، ومحاولات الاستقطاب، أمر يعمل على ظاهرة الزيغ في الوعي الجمعي، التي تنتج صورة عاكسة مشوهة كما يقرها العلماء والمنظرون.

والإعلام هو ما يؤجج هذه الظاهرة بنوعيه الحكومي والخاص. فالحكومي لا يعتمد على المصداقية والشفافية والتسلل إلى عمق الوجدان الجمعي، فيفقد عرشه في قلوب الجماهير، مهرولين إلى الإعلام الخاص الذي يحركة السبق الزائف والرواج الإعلاني "سوق الإعلانات"، وتلميع شخصيات تحمل بؤر الزيغ البصري ليس إلا لدعم هذه القناة أو تلك لها؛ وهنا تكمن الخطورة من التشويش والتشتيت، ومنه تعم ظاهرة الزيغ من الإحلال والمخايلة!.

وفي خطوة غير مسبوقة، أقامت الشارقة هذه الأيام المنتدى الدولي للاتصال الحكومي؛ لأنها تعي خطورة أهميته في صياغة الوجدان الجمعي، وإزالة ظاهرة الزيغ التي أحدثت ما أحدثته في أنحاء وطننا العربي، حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه في الرأي العام المحلي والدولي. يقول الشيخ سلطان بن أحمد القاسمي، في افتتاح المنتدى الدولي للاتصال الحكومي: "منذ عامين تزامن انطلاق الدورة الأولى من المنتدى الدولي للاتصال الحكومي، مع تزايد الاهتمام بقطاع الاتصال الحكومي، ليس على الصعيد الإقليمي فقط وإنما على الصعيد الدولي، وذلك في ظل تسارع الأحداث الكبرى على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما أثبت الحاجة إلى مزيد من التواصل بين الحكومات وجمهورها، وأكد أهمية الدور الذي يلعبه الاتصال الحكومي الفاعال، في تعزيز أداء الحكومات وصورتها"، ثم ينوه على أن سمعة الدول لم تعد متشكلة في سفرائها ومسؤولي خارجيتها، بل أصبحت تتشكل في صورة إعلامها الحكومي.

ثم تأتي كلمة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى وحاكم الشارقة، "إن مهنة الصحافة والإعلام لا تقل خطورة عن مهنة الطبيب، فخطورة القلم أشد من المشرط بيد الطبيب المرتعشة، كمناورات الدعاية ونشر الأخبار الكاذبة للتضليل، وعدم التثبت من مصادر المعلومات، أو احترام الحياة الخاصة، فعلى الإعلامي واجب احترام القارئ أو المستمع والصالح العام وحق المعرفة، ويجب أن تكون لديه أخلاقيات تشكل الحقيقة والدقة والصدق والنزاهة والإنصاف"، وشدد سموه على ضرورة أن يعمل الإعلام على احترام المتلقين من قراء ومشاهدين ومستمعين، من خلال تقديم المعلومة الحقة الخالية من أي شبهة أو تضليل، مشيرا سموه إلى الحاجة للتحلي بأخلاقيات مهنة الصحافة والإعلام لدى العاملين فيها.

من الذي يحدد هذه المعايير سوى القيم والأعراف المتبعة، التي سادتها الفوضى مع الثورات العربية وتوابعها. فلم تعد القيمة تحكم المرسل بقدر ما تحكمه المادة وتبعاتها من الشهرة والمصلحة. والنتيجة ظاهرة من الزيغ البصري كما قال سموه: "يمر عالمنا العربي بمرحلة حرجة، اختلطت فيها الأمور، فنشاهد صاحب التنوير يدخل إلى العتمة، وصاحب الحق يمتطي الباطل، وصاحب العفة تتكشف أستاره عن شهوات دنية، وأصحاب الفكر يتوهون بين الحقيقة والخيال إلا من رحم ربي".

وهذه نتيجة ظهور شخصيات الزيغ التي تتحكم في الوعي أو قل تشتته، دون أن يكون لها وجود فِعليّ على أرض الواقع، فهي شخصيات مخايلة.