خرجت سيدة يابانية عمياء من بيتها في السبعينات من القرن الماضي، ترغب بركوب القطار لقضاء حاجتها، ولأن محطات القطارات والطرق لم تكن مجهزة آن ذاك بوسائل إرشادية لفاقدي البصر، أخطأت السيدة في الطريق وسقطت تحت قضبان القطار وماتت، هذه الحادثة المفجعة جعلت اليابانيين يعلنون الحداد العام غضبا لهذه المجهولة الفقيرة كضحية للإهمال، ما أدى إلى إقالة الحكومة اليابانية، ودفع الحكومة الجديدة لوضع خطة عمل لتغطية كافة طرق اليابان ومدنها بما يخدم ذوي الاحتياجات الخاصة من فاقدي البصر وغيرهم من ذوي الإعاقات المختلفة، تأمينا لسلامتهم في تنقلاتهم، وترجمت الخطة خلال سنوات على الواقع الياباني واليوم من يمشي في طرق ومدن اليابان يجدها مجهزة لكافة ذوي الاحتياجات الخاصة، فيما تجد رسالة مكتوبة على طرقاتهم "تخليدا لمن أيقظت ضمير الشعب الياباني" قاصدين السيدة العمياء.

هذه هي اليابان التي بها أكثر من 120 مليون نسمة يعيشون في بلاد منبع الشمس كما تعني كلمة "اليابان"، وقدرتها على الاستفادة من أخطائها ووضوح الرؤية للوصول إلى الهدف جعلها تُحقق معجزات اقتصادية وعلمية وثقافية من المستحيل، تنهض بها مسافات ضوئية في سنوات بسيطة، وبدلا من أن تخرج من الحرب العالمية الثانية منهكة وحاقدة على العالم بعد ضرب هيروشيما بالسلاح النووي من قبل الولايات المتحدة الأميركية، كأبشع فاجعة حرب إنسانية في العالم، لكنها لم تجعل اليابان إلا أكثر تسامحا وقوة وصمودا ونهوضا حين عرفت أن الإرادة والإخلاص والتفاني سلاح لمن لا يؤمن بالمستحيل، ولو أن اليابانيين بعد هذه الحرب فكروا في الانتقام لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم، ويكونوا أول من ينافس الولايات المتحدة صناعيا وتكنولوجيا، وبات الين الياباني منافسا قويا للدولار في الأسواق المالية، كل ما في الأمر أنها عرفت بأن مصدر المنافسة القادم والحرب الحقيقية يكمنان في التفوق الصناعي والتكنولوجي لا ميدان الأسلحة وتسويقها، ولهذا عملت بجدية على تأسيس الطفل الياباني الذي صنع يابان اليوم، وأخرجت مئات من أفلام الكرتون التي تبث في الأطفال الحلم والإصرار والتصنيع الآلي وما ترغبه اليابان في المستقبل، ورغم أنه كان هدفا طويل المدى لكنه تحقق، فالإنسان الآلي أصبح جزءا من حياتهم وخططهم ومستقبلهم، ورغم الحضارة والعصرية التي يعيشها اليابانيون لم يتخلوا عن ثقافتهم التقليدية الموغلة في القدم، بل على الرغم من أن اليابان تقع في منطقة جغرافية نشطة بالكوارث الطبيعية أخطرها الزلازل إلا أنها لم تقف مكتوفة الأيدي مستسلمة خوفا من أن كل ما تبنيه اليوم يدمره زلزال غدا، وتسونامي 2011 الذي أصابها وتسبب في كارثة كبرى وخسائر عالية خير دليل، فلم تمر بضعة أشهر إلا وكل شيء عاد لما كان عليه بدرجة أفضل من السابق، إنها ببساطة رغبة البناء المستمر دون كلل ولا ملل.

ومنذ أيام كان الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد ووفد سعودي رفيع في زيارة إلى اليابان لتعزيز العلاقات السعودية اليابانية، وتفعيل التعاون المستقبلي بيننا وبينهم، وهو أمر أفرحنا كثيرا، فالتجربة اليابانية على مختلف المستويات تستحق الوقوف عندها والإفادة منها جيدا جدا، ليس بالكلام الإنشائي بل بالعمل والإرادة والتعلّم في بلاد الشمس المشرقة كما لقبها الصينيون.