التعصب الرياضي آفة أطلت برأسها الأفعى من زمن، ويقسم صديق لي بأنه كان في مدرج كرة قدم لناد شهير، به الآلاف من الجماهير، وكانت مباراة ديربي، وانفلت أحد الذين يقودون أولئك الهتافة، يدعو على الفريق الآخر، بما نسمعه من خطباء الجُمع وقتما ترتفع أصواتهم بالدعاء على الكفرة واليهود المعتدين، من عبارات: اللهم أهلكهم، اللهم أعمهم، اللهم اخذلهم.. والجماهير –وقد أُخذوا في حمأة الحماس- تردد معه بصوت واحد: آمين.
التعصب الرياضي بلغ شأوا بعيدا في مجتمعنا، واخترم نفسيات الأجيال بالكامل، إذ لا تلقى بيتا أو مدرسة أو أي تجمع شبابي، إلا وتسمع عن الشجارات التي تنشأ، والأرحام التي تقطع بسبب ذلكم التعصب، بل ووصل لأمداء لا نستطيع أن نسكت كمجتمع والحال بما نرى، وقرأنا ما قام به متعصب أحمق، بتقليد سورة في القرآن الكريم، تشجيعا وانتصارا لفريقه.
تتعدد الأسباب لهذا التعصب الرياضي الذي يتسرطن كل يوم أكثر فأكثر، بيد أن الإعلام بكل أقنيته سبب رئيس في فشو هذا المرض الذي تجاوز الظاهرة بكثير، فضلا على أن بيئتنا وتنشئتنا الاجتماعية قابلة وحاضنة لمثل هذا الداء، الذي يتجاوز الرياضة إلى مناح عديدة في حياتنا، والخوف كل الخوف أن يكون هذا الجيل أداة في أجندة بعض المعارضين السياسيين، الذين استغلوا بيئة التعصب الذي ترعرع فيه، وأشار لذلك الشيخ سعيد بن مسفر القحطاني في مداخلة فضائية أخيرة له، وسمعنا مؤخرا رئيس ناد في المنطقة الشرقية، يبرر على الهواء مباشرة بأن إقصاء فريقه بسبب الطائفية، وفاه بكلمات خرجت من اللاوعي لديه، حيال المظلوميات التي قال بها بطريقة تضرب في الوحدة الوطنية.
عملت في الصحافة ردحا من عمري، وكنت أغبط زملائي في الصحافة الرياضية، على أن صفحاتهم تجاز مباشرة بلا أية إشكالات، بل ربما طلب رئيس التحرير من مشرفي الصفحات الرياضية تسخين موضوعاتها، وزيادة الإثارة فيها كي تروج الصحيفة، والمتابعون من الجماهير الرياضية يشكلون رقما كبيرا لا يمكن الاستهانة فيه، بينما نروح ونغدو نحن في القسم الثقافي والإسلامي أو صفحة الرأي، بين مجيزي الصفحات وبين مكتب رئيس التحرير، لنراجع في جملة ما لكاتب، أو نجتمع لتحوير فكرة لمثقف وتمييعها، كي لا تؤاخذ الصحيفة عليها، وترتفع أصواتنا ونحتدم في اختلافات رأي، بين متحفظ بدرجة بعيدة، وقد ذهب لأقصى ما يمكن أن يفكر فيه الرقيب، وبين متذرع بحجة أن الصحيفة المنافسة بها حرية رأي، وقد أجازت مقالات أقوى بكثير مما نختلف على الجمل التي بين يدينا.
ما قصدته هنا، أن بعض رؤساء التحرير يتحملون جزءا مما يحدث في الساحة الرياضية، في تركهم مشرفي الأقسام الرياضية ومديري التحرير، يصولون ويجولون في حرية متجاوزة، يغذون في هذا التعصب الذي يصل للطعن في مواطنة اللاعبين، ويضرب على وتر العنصرية البغيضة بلا أدنى رادع، تنعكس في اليوم التالي بأن يهتف مدرج كامل به الآلاف المؤلفة من الجماهير وتصيح: "نيجيريا.. نيجيريا " تهكما بالفريق المنافس الذي ربما كان أحد لاعبيه من إخوتنا ذوي البشرة السمراء.
وكلنا نتابع ما حصل للكابتن الخلوق سامي الجابر، وقضيته مع قناة "العربية" وبرنامجها الأشهر "في المرمى" والزميل بتال القوس، وحتما لن تكون الأخيرة أبدا، ولكن ما فعله الكابتن سامي باللجوء للمحكمة لأخذ حقه، أسلوب حضاري نحتاجه، وأتمنى ألا تتأخر المحكمة في البت فيها، كي يكون حكمها منعطفا حاسما في قضية التعصب والعنصرية، وينتبه أي كاتب رياضي، أو متحدث في البرامج الرياضية، أو أي مغرد في مواقع التواصل الاجتماعي؛ بأنه تحت طائلة القانون، فعصا السلطان أقوى من مليون موعظة.
إنشاء محكمة رياضية تختص بشؤون الرياضة، بما يطالب به كثير من الرياضيين المخضرمين لن تحل المشكلة، فالمحكمة الرياضية ستكون على غرار المحاكم العمالية التي تفصل في منازعات العمال وأرباب العمل، أو على غرار المحاكم التجارية التي تنظر في المنازعات الناشئة عن تطبيق نظام الشركات والمعاملات التجارية، وبالتالي ستنظر المحكمة الرياضية في المنازعات الناشئة عن تطبيق أنظمة الرياضة العالمية أو مخالفات أنظمة اللعبة، وما نحن بصدده؛ عنصرية مقيتة تطفح من الصفحات الرياضية أو الأقنية الفضائية الرياضية، وما يحدث في الإعلام ضربٌ في الوحدة الوطنية ومواطنية بعض لاعبينا أو حتى العاملين في الإعلام، وكل هذا محله المحكمة الجزائية الشرعية.
أحيي من هنا المواطنة التي نفخر بها كلنا أختنا سلوى هوساوي التي قدمت للمحكمة –بتشجيع من زوجها الأميركي المسلم- شكوى تجاه من نعتها بـ"العبدة"، وفعلا أرغمت خصمها بهذا اللجوء المتمدن للمحكمة أن تعتذر لها. وأطالب كل من تعرض لمثل هذه العنصرية التي تنتج من ذلك التعصب –الرياضي أو غيره- باللجوء للمحكمة الجزائية، كونها جريمة مسّت بنفس الشخص، وتأذى منها، إذ لو تكرر مثل هذا اللجوء للقضاء من قبل المتضررين عنصريا، لحجّمنا تلك الظاهرة بشكل كبير، وأرجو ألا يرضخوا للضغوط التي تأتيهم والوساطات التي يقوم بها بعض أصحاب القلوب الطيبة، حتى يحكم القاضي في الشكوى، ووقتها فليعفوا أو يأخذوا حقهم الذي نالوه بالقانون، والقصد هنا أن نكرس أسلوب اللجوء للقضاء، حتى يعلم ذلك العنصري أن القانون سيطاله لو فاه بأية كلمة نابية وعنصرية تجاه أي مواطن.
كي نقوم بخطوة عملية حقيقية لتحجيم هذا التعصب المضرّ بوحدتنا؛ لا بد أن تقوم وزارة الإعلام والرئاسة العامة لرعاية الشباب بدورهما، فالأولى مخولة بمتابعة تطبيق نظام المطبوعات والنشر ونظام الجرائم المعلوماتية، والرئاسة هي المسؤولة عن الرياضة في ساحتنا المحلية، فلا بد من متابعة أولئك الذين يبثون أمراضهم العنصرية في وسائل الإعلام، ويتجاوزون مجرد التشجيع الرياضي، والانتماء والحب للنادي المفضل لديهم إلى تجديف ضد الآخرين، ورحم الله الأمير فيصل بن فهد الذي كان حازما وقويا على الكتبة الرياضيين المتجاوزين. لست أدعو هنا إلى كبت الأصوات، وخنق حرية التعبير المسؤولة، بقدر ما أود أن أضع حدا لهذا التجاوز الممقوت الذي نراه في الساحة الرياضية.
لا حلّ لهذا التعصب الذي فشا إلا بتفعيل اللجوء للقضاء، فحكم حازم واحد كفيل بردع الذين يغذون التعصب والعنصرية.