"شركات التكنولوجيا في القرن الواحد والعشرين هي بالنسبة لأميركا مثل ما كانت شركات الفضاء والدفاع في القرن العشرين". هذه العبارة لمؤسس ورئيس شركة جوجل تشرح السباق المحموم للتطوير التقني في كثير من دول العالم الكبرى، وتشرح الاستثمار بالمليارات المضاعفة في شركات التكنولوجيا، لأن القوة والتفوق في المستقبل القريب سيكون لمن يملك التكنولوجيا ويتحكم بها.
كتبت عن هذا بالتفصيل في مقالات سابقة، لكن الوعي بهذه المسألة مازال محدودا عربيا، بينما الوعي به في الدول الكبرى يمتد من السياسيين الذين يدعمون شركات التكنولوجيا إلى الحكومات التي تستثمر في التعليم التقني وتشجع الشركات الناشئة إلى المستثمرين الذين يقيمون شركات التقنية بأسعار مرتفعة عند طرحها في الأسواق أو شرائها.
لكن ماذا عن إسرائيل، عدونا التقليدي اللدود، أين تقع من هذه المعادلة؟
السؤال يبدو كأنه من الأرشيف، فالصراع مع إسرائيل تحول إلى قضية ثانوية في السنوات الأخيرة في ظل ما يحدث في العالم العربي، ولأن بعض العرب يرون أن هناك عدوا أكثر شراسة وطغيانا كما حصل في سورية والعراق ولبنان، لكن الحقيقة أن إسرائيل وحدها من يملك القدرة الاستراتيجية على التحكم بالأجندة الغربية نحو الشرق الأوسط، والقدرة العسكرية لخوض الحروب، وهي ما زالت تمارس ظلمها على الشعب الفلسطيني، وستبقى العدو المستقبلي الأكثر خطرا وتأثيرا على العالم العربي.
واقع إسرائيل التقني يؤكد أن هذه الدولة الصغيرة القائمة على أرض فلسطين المحتلة والتي يصل سكانها إلى حوالي 8 ملايين شخص يسكنون مساحة تقل عن 2 بالألف من مساحة العالم العربي، تعمل بنشاط مثير للانبهار والرعب في آن واحد في مجالات التقنية، بينما العرب مشغولون بالأحاديث النظرية والصراعات الأيديولوجية.
يوجد لدى إسرائيل الرقم الأعلى لعدد الشركات التقنية الناشئة بعد أميركا، مما يجعلها الأعلى في العالم من حيث العدد بالنسبة للسكان، وتأتي بعد أميركا وكندا في عدد الشركات الموجودة على مؤشر ناسداك للشركات التقنية. كثير من هذه الشركات تقع في "وادي السيليكون"، والتي تمثل أكثر منطقة كثافة بشركات التقنية بعد الـ"سيليكون فالي" في كاليفورنيا.
على مستوى الإنجاز، استطاع الإسرائيليون تحقيق إنجازات ضخمة تقنيا جاء كثير منها بسبب اختيار شركات أميركا الكبرى لإسرائيل لمراكز أبحاثهم بغرض الاستفادة من خريجي الجامعات التقنية الإسرائيلية، ومنه اختراع الموبايل (في مصنع موتورولا بإسرائيل)، وتطوير ويندوز إكس بي في مركز ميكروسوفت للأبحاث بإسرائيل، وعدد من أهم اختراعات شركة إنتل وغيرها.
ليس ذلك فحسب، فالشركات الإسرائيلية تملك كما ضخما من براءات الاختراع التقنية، ومنها اليو إس بي فلاش الذي نستخدمه كل يوم، وعدد كبير من برامج الحماية من الفيروسات، وتقنيات الحماية الأمنية (مثل VPN) وغيرها. هذه مجرد أمثلة فقط، والقائمة طويلة جدا ومذهلة، وليس هدف المقال هو تفصيل هذه الاختراعات، بل الإشارة إلى واقع ضخم، يعرفه من يعمل في مجال التقنية أو يزور المعارض العالمية، ويرى أثر التقنية الإسرائيلية هناك. باختصار، إسرائيل تملك أكبر عدد من براءات الاختراع في العالم مقارنة بعدد السكان.
على مستوى الصناعات العسكرية، تملك اسرائيل ثالث أكبر عملية لتطوير المقاتلين الآليين، وهي تطور قادم لعالم الحروب، عبر روبوتات تدخل إلى ساحة المعركة بالتحكم عن بعد، وتملك قدرات لا يملكها البشر العاديون. أضف إلى ذلك كله، الترسانة العسكرية التي تملكها إسرائيل حاليا، بفضل المساعدات الأميركية والروسية الكريمة. يكفيك أن تعرف أن إسرائيل تملك رابع أكبر سلاح جوي في العالم من حيث عدد الطائرات (بعد أميركا وروسيا والصين)، وثاني أكبر دولة بعد أميركا في عدد طائرات F16 التي صنعت أجزاء كبيرة منها في إسرائيل نفسها.
كيف حققت إسرائيل كل هذا؟
بالتأكيد استراتيجية واضحة وتصميم لا يكل ولا يمل على تحقيقها، واهتمام بالأنظمة التي تشجع التكنولوجيا، وقبل ذلك كله التعليم التقني، الذي جعل حوالي 1,45% من سكانها يعملون في مجال التقنية، متفوقة بذلك على أميركا واليابان وألمانيا (في نسبة السكان في مجال التقنية).
بالنسبة للعالم العربي، فالصورة محدودة جدا ولا تكاد تذكر، وهذا يعني أنه ما لم تتغير الصورة، فالفارق التقني بيننا وبين اسرائيل يعني حسم ميزان القوة لعقود طويلة لصالح إسرائيل في المستقبل.
هل أنا مخطئ ومتشائم ومتأثر بالدعاية الإسرائيلية، بينما الواقع أفضل من ذلك؟
أتمنى هذا من الأعماق.