عادت الثورة البرتقالية في أوكرانيا إلى الواجهة بداية هذا العام بعد اعتراض بعض الأوكرانيين على سياسات وقرارات الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش في الاقتراب من روسيا والابتعاد عن الاتحاد الأوروبي، وهذا ما لم ترده فئة من الشعب الذي يرى أن الأَوْلى هو الاقتراب اقتصاديا وسياسياً من الاتحاد الأوروبي، وانتهى الأمر بالرئيس ومعارضيه إلى توقيع اتفاق برعاية الأوروبيين، ولكن في اليوم التالي قرر البرلمان الأوكراني عزل الرئيس لتدخل العاصمة كييف في احتمالات كثيرة للفوضى والانعزال السياسي وربما الانقسام بين أقاليمها، كل هذا يحدث الآن قبل خوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الجديدة المزمع تنظيمها، وهذا ربما يشير إلى نظام سياسي جديد وبوادر دستور آخر.
لو عدنا إلى تاريخ أوكرانيا سنجد أن أوكرانيا ارتبطت تاريخياً بروسيا ودول شرق أوروبا من خلال كونها عضواً مؤسساً لجمهوريات الاتحاد السوفيتي، أما بالنسبة للجغرافيا، فإن أوكرانيا بمختلف جهاتها هي الأرض الفاصلة بين غرب أوروبا وشرقها، حيث جمهورية روسيا الاتحادية وما ارتبط بها من دول شرق أوروبا. هذا الأمر يعني أن أوكرانيا كانت ومازالت رقعة الشطرنج بين روسيا وأميركا، وبالتالي سيحرص كل من المتنافسين التقليديين على جذب الجمهورية الأوكرانية إليه.
غير أن التنافس على أوكرانيا ليس الوحيد، بل هو أحد أشكال محاولة فرض النفوذ والتغلغل إلى مناطق استراتيجية، فمنذ سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك جمهورياته حيث حرصت الولايات المتحدة الأميركية على التغلغل داخل مناطق النفوذ الروسي، وهذا ما يزعج الروس كثيراً اليوم، ولذلك تقوم الاستراتيجية الروسية على محاولة حماية نفوذها التاريخي في عدة دول ومنها أوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان وجورجيا.
بل إن روسيا في عام 2008 أرادت إبراز قوتها العسكرية فعليا حين اجتاحت جورجيا وفرضت الوضع السياسي الذي تريد، إلا أن أوكرانيا ما تزال قطب الرحى بالنسبة للاستراتيجية الروسية؛ ولذلك حرصت روسيا على قلب الموازين على الثورة البرتقالية عام 2004، واليوم تحاول الولايات المتحدة تغيير شكل هذه المعادلة بتبدّل شكل القطع وأماكنها على رقعة الشطرنج، على الرغم من أن روسيا قد حسمت وجودها العسكري في أوكرانيا من خلال اتفاقية مع أوكرانيا تبقي على وجود الأسطول الروسي حتى عام 2042، وهنا يبدو أن أوكرانيا هي بوابة روسيا إلى الغرب على المستوى الاقتصادي والجغرافي والسياسي.
وتحاول روسيا (البوتنية) اليوم إعادة مجد روسيا القيصرية من جهة، وقوة الاتحاد السوفيتي من جهة أخرى، ولا سيما بعد أن تعافت روسيا نسبياً من كل الجراح التي خلفها تفكك الاتحاد السوفيتي، إلا أن الأمر يبدو وكأنه مرتبط بشخص الرئيس فلاديمير بوتين لا بسياسة واستراتيجية طويلة المدى، بدليل أن روسيا تختلف بوجوده فتكون أكثر شراسة، وربما هذا ما يريده الرئيس الروسي لتكوين رأي عام عنه داخلياً وخارجياً مما يسهم بوجوده كرجل روسيا القوي، وهذا الأمر بات واقعاً.
وفي المقابل تريد الولايات المتحدة الأميركية الحد من الطموح الروسي لتكون قطباً آخر على المستوى العالمي بالتمدد جغرافياً خارج حدود الاتحاد السوفيتي السابق، حيث تحاول أميركا حصر روسيا في رقعة محددة؛ ولذلك نجد أن مناطق التواجد العسكري الأميركي قد اقتربت كثيراً من روسيا، وتعتبر أوكرانيا أهم مناطق النفوذ لما لها من موقع استراتيجي على المستوى الجغرافي ولما لها من ثراء اقتصادي.
وتحاول أوروبا جذب أوكرانيا لتكون عضواً في الاتحاد الأوروبي، إلا أن روسيا نجحت في إفشال هذه الفكرة، على الأقل مؤقتاً، فيبدو أن الرغبة الشعبية تتجه نحو التداول الديموقراطي، والانخراط في عضوية الاتحاد الأوروبي كونه يفتح آفاقاًَ واسعة أمام المجتمع الأوكراني للعمل والتحسن الاقتصادي على مستوى دخل الفرد وغيره.
يبدو أن روسيا اليوم في موقف حرج فيما يخص المسألة الأوكرانية، فرقعة الشطرنج الأوكرانية تتجه لأن تكون أميركية، وهذا ما قد يفقد روسيا بعض انتصاراتها في سورية، حيث لا بد من تقديم التنازلات عن المواقف الروسية المتشددة، إما في المسألة السورية وإما في المسألة الأوكرانية، وإذا ما حسبها الروس بدقة فسيجدون أن وجودهم الجغرافي في الشرق الأوسط من خلال سورية لا يوازي أبداً النفوذ والوجود الروسي في أوكرانيا.. وهذا ما سوف تحسمه الأيام القادمة.