قبل ما يقارب العشرين عاما، لم نكن نسمع أو نقرأ جدلا حول أي عمل درامي محلي أو عربي خصوصا في دائرتنا المحلية، ليس لأن الناس حينها، متسامحون مع الأعمال الدرامية، بل إن التفسير المتشدد تجاهها، يفوق حالنا الآن بمراحل كبيرة جدا. لكن الأمر ببساطة يكمن في أن المشاهد السعودي خصوصا لم يكن لديه سوى الأعمال الدرامية المصرية التي تلي نشرة التاسعة مساء على القناة الأولى السعودية، التي غالبا ما تناقش صراعات "الأفندية" على الأموال و"كم فدان" ومعضلة"جواز حسنية من عوضين". وبعد أن ظهرت أعمالا تتطرق إلى بعض مشكلاتنا المحلية وفي مقدمتها "طاش ما طاش" أصيب الجميع بذهول ممزوج بالفرحة، لوجود من يناقش همومهم ويتحدث بألسنتهم بجرأة غير مسبوقة، مثلت في بعض مراحلها صدمة حقيقية، لفئات رسمية وشعبية.
ونتيجة لهذه الصدمة تعالت الأصوات التي تبارك وتشيد بهذا النقد الاجتماعي وتعتبره نقلة فنية واجتماعية وثقافية. لكن المثير في الأمر أنّ هذه الإشادات تتحول في لمح البصر إلى قواميس من الشتائم والاتهام الجاهز بـ"الإساءة والتطاول"، ومطالبة الجهات الرسمية بـ" إيقاف هذه المهازل"، لأنها لامست سطح الفساد والنفاق الاجتماعي، وهذا الأمر كفيل بأن يجعل "المطبل والمزمر" بالأمس للنقد الاجتماعي والشفافية، ألد أعداء القائمين على الأعمال الدرامية صباح اليوم التالي، في ازدواجية مضحكة. ونتيجة لهذا الوضع نشأ صراع علني بين منتجي الأعمال الدرامية ، كان فيه الجانب المعارض هو الأكثر صراحة في تحديد أهدافه. ولكن لا يمكن تبرئة منتجي الأعمال الدرامية من محاولة تصفية حسابات مع معارضيهم من خلال المبالغة الشديدة في بعض الأحيان.
وبالمجمل فموضوع تحديد مفهوم "الإساءة" في الأعمال الدرامية العربية ومتى تكون فعلا إساءة؟. وما الحدّ الفاصل بينها وبين "الشفافية"؟. من الموضوعات التي تثار عربيا بشكل كبير، وربما تسببت في توتر علاقات سياسية واجتماعية بين دول وقادة كما رأينا في أزمة المسلسل الكويتي الكرتوني"بوقتادة وبونبيل" الذي اتهم بـ"الإساءة للمغرب". ولن يحسم في اعتقادي إلا في ظل وجود نقابات فنية محايدة يجتمع فيها الفنان والمثقف، تعطي رأيها في العمل، بحيث تكون هي المخولة الوحيدة في فرض عقوبة الإيقاف أو الغرامة المالية على المنتجين، في حال ثبت أن العمل تجاوز النقد الهادف وتجنى على أشخاص أو دول دون أدلة صريحة.
أما ما يحدث الآن من اعتذارات مجانية و"حب خشوم" من جهات لا علاقة لها بالدراما، في حال أثار عمل ما، غضب جهة محلية أو خارجية، فإنه لن يجدي لا في "ضبط" الأعمال الدرامية مستقبلا، ولا في ترسيخ مبدأ الشفافية وحرية النقد الاجتماعي الهادف لإصلاح الخلل. بل سيزيد الأمر سواء حيث سيدخل أناس بأعمال فنية هزيلة تستجدي المشاهد من خلال إثارة النعرات الفئوية والطائفية، وحينها سنبقى في دائرة جدلية مغلقة، فهذا ينادي بـ"الحرية" وذاك يطالب بـ" وقف الإساءات". وفي النهاية "حب خشوم" لا ينتهي.