للمرة الثانية وفي هذه الزاوية، تومئ هذه القضية المؤرقة برأسها، والتي أكلت من أعمارنا زمناً ليس بالقصير، وهي كارثة "الشهادات الوهمية" وحمى الاندفاعات المشبوهة للحصول عليها من بعض الأكاديميين والأطباء والمثقفين والمسؤولين في دوائر الدولة والقطاع الخاص "رجالاً ونساء". لقد أصبح امتلاك هذه الدرجة العلمية أسهل من الحصول على متخلف "بنغالي" في شوارع بلادنا، فمتى يعي هؤلاء أنهم بشهاداتهم المضروبة كالطحلب الآسن لا ماء ولا شجر؟ لقد أمعنوا في الفضيحة حتى بلغوا "سبعة آلاف" كائن على ذمة عضو مجلس الشورى الدكتور "موافق الرويلي" الذي أكد بالأمس أن هذا الرقم ضئيل بل قمة جبل الجليد، ترى أي أضرار ستلحق بالوطن ووعي الأمة والأجيال المتلاحقة بفعل "أمية الدكاترة" وما ينحتونه في أعصاب المجتمع من تداخل فج وتفاعل ملفق وتعالق مسموم وخطاب معطوب؟ إنهم يتناسلون كرمل الصحارى، دون أن تجرّم أفعالهم الكريهة والمزيفة، أو يصدر بحقهم نظام صارم يحد من الأضرار التي يلحقونها بالبناء المجتمعي، والمجالات العلمية والأدبية والتربوية وما يشكلونه من هزيمة للوظائف المعرفية والجمالية والأخلاقية والسقوط في فراغ الوعي الغائب، إننا بحاجة إلى حوار عقلاني حول هذه القضية الشائكة، التي أصابت الجيل المبهج بالحيرة وصهرته بالشك حول مصيره العلمي وتوقه للوصول إلى أعلى الدرجات، بعد أن استشعر ما يدور حوله من الاستحواذ على هذا اللقب دون رهق عقلي وجسدي، ودون ثني للركب كما تقول العرب، ولا انهماك مضن وسهر ليلي مستبد، بل ولم يغترف أولئك الأدعياء السفر إلى أطراف المعمورة، بحثاً عن المتاح من المراجع والمصادر والوثائق، ليشبعوها بحثاً وتحليلاً واستيعاباً عميقاً، يفضي إلى بلورة الجوهر والمكنون الذهني كما تفعل الأرواح المتوثبة وصناع المستقبل، متى تعي تلك الجوقة البليدة والمقعدة أنهم ضرب من العبث المثير للضحك والسخرية السوداء وأحاديث الخيبة وهلامية المسعى؟ فمنهم من أخذها بحثاً عن الوجاهة والمكانة وغواية اللقب واستجلاب الاهتمام، ومنهم من أخذها لإحساسه الطاغي بالإحباط والهامشية والحضور المنقوص، ورغبة الغرق في الأضواء ليطير بها كالخفاش الأعمى في المحافل والمنتديات، ومنهم من أخذها للاسترزاق والصعود في السلم الوظيفي والمراتب الإدارية العليا، ليستمتع بتحريك الشخوص حوله والتنكيل بهم في حالة ارستقراطية ضامرة ومزيفة، ومنهم من جعلها طوق نجاة لتسحبه من حياة القاع ومرارة التجاهل إلى شرفات الحفاوة وحواضن الشهرة، ومنهم من يسعى بها لقبة مجلس الشورى، فأغلبهم دكاترة كما قال لي أحدهم ذات مساء فندقي، فقلت له: إن شروط الشورى أن يكون العضو عقلاً للأمة وصوتاً لضميرها الشاهق، فهوّن عليك يا صاحبي فالكيس الفارغ لا ينتصب.