سياسة أي دولة في تدخلاتها الخارجية، عادةً ما تقدم عليها من أجل ضمان سلامة واستقرار وضعها الداخلي والخارجي، أو هكذا المفروض والمفهوم من أي تدخل خارجي لأي دولة. ومتى ما انعكست سياسة التدخلات الخارجية لدولة ما، سلباً على سلامة واستقرار وضعها الداخلي أو الخارجي؛ فهنا يتوجب عليها التوقف فوراً عن تدخلها الخارجي والبدء بإجراء مراجعة لجدوى تدخلها وإعادة ترتيب أولوياتها وآلياتها في التدخل؛ حتى لا تقع في مطب "انقلاب السحر على الساحر".

وعندما ينعكس التدخل الخارجي لأي دولة سلباً عليها، ويبدأ يهدد أمنها الداخلي والخارجي؛ لا يعني ذلك بالضرورة أن دوافع التدخل خاطئة؛ وإنما يعني أن كيفية وآليات تدخلها التي اختارتها خاطئة أو توقيت التدخل خاطئ؛ أي أن سبب التدخل الخارجي ولو كان محموداً، لا يكفي بذاته لأن يكون دافعا للتدخل؛ متى ما لم تتهيأ له الآلية والكيفية المناسبة مع التوقيت المناسب. فقد يتم استدراج دولة ما، للتدخل الخارجي، من أجل توريطها وسحبها لفخ معد لها مسبقاً، وهي غير مستعدة له؛ ومن هنا يتم العبث بأمنها، الداخلي أو الخارجي أو كليهما أو إرهاقها اقتصادياً ومعنوياً وتنسحب مهزومة مدحورة، من مكان تورطها.

وهذا النوع يسمى بالتورط؛ أي التدخل غير المدروس الذي ينتج عنه تدخل الدولة المتورطة في الحرب على أنها تخوض حربا تكتيكية قصيرة، تؤدي مهمتها وتخرج منها سالمة غانمة. فيتم اصطيادها من قبل خصومها وتوريطها، بتدوير كرة الدم الصغيرة لتصبح جبلاً يغرقها شيئاً فشيئاً؛ لا تستطيع الخروج منه إلا بإعلان هزيمتها. وسبب ذلك أن الحروب ـ بشكل عام والخارجية منها بشكل خاص ـ لا تشن إلا ضمن حدود استراتيجيتها المرسومة مسبقاً والواضحة المعالم؛ ومن ثم رسم التكتيك المناسب لتنفيذها في ميادين القتال والجبهات الداخلية.

وكما أوضحت أن التورط يبدأ بحرب تكتيكية صغيرة؛ أي من دون وجود استراتيجية، وهنا يستحيل التحكم بحرب تكتيكية لا استراتيجية لها، كما لا يمكن التحكم بالسيارة المندفعة من سفح جبل من دون "فرامل" أو مقود. وهذا ما حدث بالتحديد لتورط الجيشين: الأميركي في حرب فيتنام 1960- 1975؛ والسوفيتي في أفغانستان 1979- 1989. حيث إن بداية كلتا الحربين، كانت للحفاظ على أنظمة موالية لكل منهما، عن طريق إرسال قوات صغيرة ومستشارين ومدربين عسكريين؛ وهنا تم اصطياد كل منهما في مستنقع الدم.

وكما أن لكل فعل ردَّ فعل مساوية له في المقدار ومضادة له في الاتجاه؛ فقانون حركة التدخل الخارجي، يجب أن يدار حسب هذا القانون. وذلك من أجل ألا يؤثر التدخل الخارجي لأي دولة سلباً على أي من جبهاتها الداخلية والخارجية. وذلك باختيار ردة الفعل الموازية لأي فعل خارجي تجاهها وبنفس الاتجاه، أي عدم تكبير دائرة المواجهة، لتشمل أطرافا أخرى؛ وذلك باختيار الآليات المناسبة المدروسة لتدخلها وبكل فطنة وذكاء. بحيث لا تندفع بكل قوتها إلى هذا التدخل وبدون دراسة آليات تدخلها وتحويل التدخل الخارجي للصراع الخارجي الذي تتدخل فيه صراع موت أو حياة، وهو لا يستحق كل ذلك؛ حتى لا تصبح أرضها وشعبها ومقدراتها جبهة من جبهات الصراع؛ لأن هنالك من سيستغل تدخلها في الصراع شيئاً فشيئاً حتى تصبح أحد جبهاته المشتعلة؛ وهنا يحدث التورط. وإذا خرجت منها سالمة فحتماً، ستكون أضعف مما كانت عليه قوتها المادية والمعنوية، خارجياً وبالطبع داخلياً؛ وتكون، بنفس الوقت، معرضة لتقديم تنازلات لخصومها، لم تكن لتفعلها قبل تورطها الخارجي الفاشل.

قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة 1945، حدثت انتفاضة عارمة في بولندا، ضد الجيش السوفيتي المسيطر على شرق أوروبا، وقام الجيش السوفيتي بسحقها بلا رحمة أو هوادة. حينها علت صيحات في أوروبا والولايات المتحدة، مطالبة الدول الغربية بالتدخل لمساندة الثورة البولندية ضد التدخل السوفيتي. وقابل وفد من اللوبي البولندي في واشنطن الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، يناشدونه التدخل لإنقاذ موطنهم الأصلي من براثن الشيوعية؛ فاعتذر لهم روزفلت بقوله: "آسف لا أستطيع؛ حيث لا أمتلك 165 فرقة لأقوم بذلك"، ويقصد بذلك عدد فرق الجيش السوفيتي حينها. كما سيطرت الكتائب اليسارية والشيوعية الثورية، على اليونان، بعد انسحاب القوات النازية منه؛ فخافت الدول الغربية أن تتحول اليونان إلى دولة شيوعية، فقامت البحرية البريطانية بإنزال عسكري، قمعت به الثورة وأعادت ملك اليونان والحكومة اليمينية إلى سدة الحكم في اليونان.

تعرض حينها الاتحاد السوفيتي، وخاصة رئيسه الحديدي ستالين، المعروف بتصلبه في تطبيق المبادئ الشيوعية، لنقد شديد من قبل القوى اليسارية والثورية في العالم، لعدم تدخله في مساندة وحماية الثورة اليسارية في اليونان؛ فرد عليهم: "لسنا على استعداد للمخاطرة بمقدراتنا لمساعدة من لم ينسق مسبقاً معنا ولو كان أخلص وأقرب حلفائنا". هنا فضلت أميركا أن تفقد بولندا من أن تخسر قوتها من أجل معركة جانبية مع السوفيت؛ وكذلك اتخذ "السوفيت" الموقف نفسه تجاه اليونان. بولندا مصيرية بالنسبة لـ"السوفيت"، واليونان مصيرية بالنسبة للقوى الغربية؛ وكل منهما فرز بدقة وذكاء بين المعارك المصيرية والجانبية؛ وهكذا هي الفطنة في تحديد متى يتم التدخل الخارجي؟ ومتى لا؟

إسرائيل خططت واستعدت ودخلت جميع حروبها مع العرب وانتصرت بها جميعها، وتفادت الهزيمة المطبقة عليها في حرب 1973. ولكنها عندما تورطت في غزوها للبنان عام 1982؛ خرجت منه مهرولة مهزومة مدحورة، من دون أن يقابلها جندي نظامي عربي واحد. وفي عام 2003، غزا الجيش الأميركي العراق ونجح في تفكيك مؤسسات الدولة العراقية؛ ولكنه تورط في معترك الوحل العراقي حتى عام 2011؛ حيث خرج من العراق، باحثاً عن أقل الخسائر، وليس أكثر المكاسب كما كان يظن ويعتقد الساسة الأميركيون. مع كون الجيش الأميركي نجح نجاحاً باهراً في حربه مع الجيش العراقي عام 1991، وأخرجه من الكويت. فقط لكون الحرب في إخراج الجيش العراقي من الكويت؛ كانت فعلا، كونها موضوعة ضمن استراتيجية محددة ومدروسة؛ أما غزوه للعراق فقد أتى كردة فعل، مبنية على معطيات خاطئة على الأرض، أي غير مدروسة، كما ينبغي.

عندما قامت الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، شنت عليها القوى الغربية بقيادة بريطانيا العظمى تدخلا عسكري لإجهاضها؛ تحت حجة مساندة الجيش الأبيض القيصري. صمد البلاشفة في وجه هذا الغزو، لأكثر من خمس سنوات وبدأ يتفكك الجيش الأبيض. في بريطانيا حينها، كثر اليساريون والشيوعيون وأخذوا يتحركون ضد تدخل الحكومة البريطانية في روسيا. فسحب رئيس وزراء بريطانيا وينستون تشرسل قواته من روسيا؛ قائلاً: "أفضل أن أرى كل روسيا حمراء (شيوعية)؛ على أن أرى زيادة أحمر واحد في بريطانيا". مع كون روسيا حينها ضعيفة وبعيدة جداً عن بريطانيا؛ ولكن خاف تشرشل على تأثر جبهته الداخلية؛ نتاج تدخله غير المدروس في روسيا. وهذا ما يحدث الآن بالتحديد بالنسبة للدول المتدخلة في سورية؛ تنسحب منها الواحدة تلو الأخرى، خوفاً على جبهاتها الداخلية من الإرهاب.