ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ تخيلوا أن هناك مئات المقالات كتبت في سبيل الإجابة عن هذين السؤالين، بل ودونت كتب في سبيل الإجابة، فأين الخطأ؟ فطيلة هذا التاريخ "الإسلامي" يكرر الباحثون على أنفسهم أنهم لم يشعروا ببؤس كما شعروا ببؤسهم في القرون الأخيرة، متناسين حروب الردة، مع أربعة خلفاء راشدين ثلاثة منهم قتلتهم يد الغيلة، وصولاً للغزاة المغول واجتياحهم لبلاد "المسلمين" وقبلهم تمزقات دول "الإسلام"، فقرامطة أخذوا الحجر الأسود عندهم، إلى سقوط الأندلس، وحتى صراع رومل ومونتغمري بمدرعاتهم في أرض الشمال الأفريقي وأهل الأرض لا يملكون من أمرهم شيئا، لكن "المسلمين" اعتادوا غفران الغزو، ما دام المنتصر يكرر على أسماعهم ما كان يفعله المستشرقون في أرض العرب اقتداء بجدهم نابليون في غزو مصر عندما أعلن إسلامه!!؟!
ربما لا نلحظ أحداً تساءل عن الإشكالية التي يجب الالتفات لها قبل محاولة الإجابة عن هذين السؤالين.
ولكي نكتشف معقولية السؤال من عدمها يجب أن نطرح أمثلة أكثر وضوحاً لإيصال المراد للمتلقي، فلو جاء أحدهم وقال: ماذا خسرت أوروبا وأميركا واليابان حالياً من عدم اعتناقها للإسلام؟ ولماذا تخلفت أميركا الجنوبية عن أميركا الشمالية؟ وكلتاهما مسيحيتان؟!.
ما أريد قوله: إن إدخال الإسلام في صميم الأسئلة التي ترتكز على واقع مادي، يعيد إلى ذاكرتنا ذلك الرجل الذي يمتدح الدين لأنه يركز على النظافة قبل أن يعرف الناس معنى النظافة... الخ من عبارات، "نحن سبقنا الغرب في الاهتمام بكذا وكذا"، المهم أنه عند تهدئة هذا الفرح باكتشافه العظيم لمسألة الوضوء وتقاطعها مع المفاهيم المادية الحديثة لزمن الميكروسكوب وعلم الجراثيم، يتناسى أن الدين يرتكز على مفهوم الطهارة ودلالته الروحية ولم ينشغل بتلك الدلالة المادية للنظافة، ولهذا يبقى للراغب في الصلاة عند انعدام الماء التيمم بالتراب!!.
هنا وبعد هذه المقدمة السريعة والموجزة، هل لنا أن نعيد مساءلة السؤال نفسه عن مدى صدقيته قبل أن يتحول إلى مشروع سؤال! "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ ولماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟" من حقنا أن نسأل وبجدية كاملة، هل هذه فعلا أسئلة حقيقية ومنطقية، تخيلوا معي أحدهم يسأل نفسه لماذا لم ينتصر فريقه الرياضي، ويتذمر أن آخر كأس يتذكره لفريقه كان قبل عشرين عاما، ثم بدأ يتساءل عن أسباب انتصارهم قبل عشرين عاما، لتتوالى الإجابات السخيفة، كقول أحدهم: كان الفريق قبل عشرين عاما يطيل شعر رأسه، ويلبس الفانيلة الرياضية بأكمام طويلة!! ثم تكون المصيبة في أن يجيء شخص ليناقش مسألة التزام الفريق الرياضي بواجباته الدينية، وأن سبب انحطاط مستوى الفريق وجود بعض العناصر الكافرة من المحترفين الأجانب!؟!
لا تظنوا أن هذه "الكركترات" خيالية أو فيها تجاوز، بل إنها مجرد مثال عابر يؤكد سذاجة أسئلة النهضة التي ربطت نفسها بمعطى روحي، وهو الدين الذي يؤديه المسلم البريطاني بأركانه الخمسة كما يؤديه المسلم الياباني مع اعتزازهما بقوميتهما ولغتهما وتاريخ بلادهما دون الحاجة إلى قلق الولاء والبراء الذي يعيشه مسلم مسكين في وسط بلاد العرب المسلمين!!، ودون أن يزايد أحد على أحد، فليست الأركان الخمسة بحاجة لأيديولوجيا ترعاها، وكم ظلم الإسلام بكل من يريد أن يحاكي به دين النصارى في وجود "المجمع المسكوني"، ثم تجد من يتساءل بعد كل هذا لماذا نسير في تقليد الغرب؟!
إذاً فما الحل؟ الحل يكمن في الحرص على الوصول إلى سؤال صحيح، فقد ضاعت أجيال وأجيال وهي تبحث وتطرح إجابات متنوعة، بل وتؤلف كتباً وتعقد ندوات بحثاً عن إجابة عن سؤال خاطئ، سؤال غير منطقي، سؤال يراهن على خياطة السماء بالأرض، وقد يفعلها الشعراء في قصائدهم، لكن الأرض تبقى الأرض التي تنتظر اليد والمحراث، وكم يعجبني ذلك الفلاح الذي يحضر مع أهل قريته صلاة الاستسقاء على عجل، ليعود إلى مزرعته ويكمل مع أبنائه حفر بئره.
سؤال الهوية يحمل في مضمونه مراهقة النمو، فسؤال الهوية سؤال جدلي عند الفرد، يزداد حدة في فترة بلوغه، فإن بلغ مبلغ الرشاد انتهت مراهقته، وأعراضها المتشنجة في اللبس وحدة الكلام وغلظة الطبع، وقلة الصبر وشيء من الحمق والعته تحت مبررات البحث عن الهوية، إذ نجده أثناء المراهقة يتطرف في إثبات هويته ويصل الأمر به أحياناً إلى الصراع مع الآخرين في صراعه تأكيد لذاته، ليصبح الصراع في حد ذاته هدفاً وسبيلا لتأكيد الهوية الخائفة القلقة التائهة، فمتى تتخلص مشاريع النهضة العربية من سؤال الهوية ومآزق مراهقتها في استجلاب الأسئلة الخطأ، منذ انصراف الدولة العثمانية عن تطوير صناعتها ونظامها، فأنكر شيوخها عليها استخدام المطبعة لطبع القرآن، إذ كيف يدنس بآلة الكفار وتترك كتابته بيد المسلمين!!، ذلك النظام العثماني الذي اختزل نفسه وتاريخه في تنظيم "الحرملك" وطلب النصر من الأضرحة والقبور، ثم الانجراف في إجابات خرافية تتكئ على قواعد لم يتم التأكد من صدقيتها كمسلمات منطقية.
سؤال النهضة هو سؤال حضارة ومدنية، وليس سؤالا لما وراء الطبيعة، إنه سؤال حياة بامتياز، فما جدوى الركض في إثبات هوية لا يمكن إثباتها بشكل عمومي، فالناس يتمايزون في إيمانهم وتقواهم وقناعاتهم الدينية باختلاف مللهم ونحلهم، رابطة العالم الإسلامي تضم تركيا والجزائر وأفغانستان وإيران، فما الرابط بين هؤلاء سوى الإسلام كبعد روحي، أما واقعهم المادي فلكل دولة منظومتها الخاصة كحالة مدنية مستقلة، ويبقى مشروع الإنسانية التي تسمو فوق اللون والدين واللغة والعرق هو مشروع السؤال الحقيقي لمن أراد النهضة، فإذا وضعنا الشرط الإنساني المتسامي على كل هذه الفروقات البشرية فكم سيبقى لنا من مشروع النهضة "الإسلامي" فكيف إن قرنه بعضهم بهستيريا عودة الخلافة لتوهمنا القاعدة وفروعها ـ ممن يرفعون الجمامجم بأيديهم ـ أن في وجوههم نور عمر أو علي من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -؟ هل عرفنا الآن لماذا سؤال "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" سؤال شوفيني بامتياز؟ وأولى خطوات النهضة، الشفاء من الشوفينية، ليستطيع من شفي منها أن يرى السؤال الصحيح، وبعدها صدقاً سنتفاجأ بأنفسنا إذ سنتفق على الإجابة بكل محبة دون الحاجة إلى هذه الفوضى "الخلاقة" في شرقنا البائس، والسر أننا عرفنا قيمة الإنسان لمجرد أنه إنسان دون "حذلقات" الطوائف ودغلها، والقوميات ومناكفاتها.