حظي مفهوم المواطنة والدولة المدنية، بمناقشات مكثفة هذا العام، في ندوات مهرجان الجنادرية، وقد كان لي شخصيا شرف المشاركة، فيها، في الندوة التي حملت عنوان الإسلام السياسي ومفهوم المواطنة. والواقع أنني استفدت كثيرا من ثراء تلك المناقشات. هذا الحديث يستفيد كثيرا من بعض ما تضمنته الورقة التي قدمتها، وإن كان لا يلتزم بنصوصها، ولا يتعرض لعلاقتها بالأيديولوجيا، لأن ذلك خارج قدرة المساحة المتاحة للحديث.

المواطنة مفهوم، مشتق من الوطن، يرتبط في تطبيقاته بالدولة الحديثة، التي نتجت عن عصر الأنوار الأوروبي، والثورة الصناعية، والثورات الاجتماعية التي شهدتها القارة الأوروبية منذ أواخر القرن الثامن عشر. وإذا فالمعنى كما هو معروف الآن، وافد من خارج الإطار المعرفي العربي.

يشير مفهوم المواطنة إلى المساواة وتكافؤ الفرص، وإلى حقوق وواجبات الأفراد المنتمين إلى دولة ما، ينص عليها الدستور، وتصبح عنوان الهوية. وأول من قال بالمواطنة، هو أرسطو، الذي عدها من أساسيات المجتمع المدني "Civil Society" واقتصر ممارستها على أناس مؤهلين "Qualified".

التطورات التاريخية، فرضت الانتقال، من المفهوم القديم الذي سادت فيه الإمبراطوريات، والذي يعد الفتح، بالرضا أو القوة، من أساسيات نشوئها، إلى مفهوم الدولة المبني على العلاقة التعاقدية. وعناصر المواطنة، هي الأرض والسيادة والعقد الاجتماعي. هذه التطورات لا يوجد ما يماثلها بالبلدان العربية، بسبب الموروثات الثقافية، ولتعطل النمو، الناتج عن طغيان الاستبداد العثماني على الأمة، لقرون عديدة.

مبدأ "المواطنة" يعد الهوية السياسية والقانونية قاعدة للعلاقة بين أعضاء مجتمع سياسي. وتستند المواطنة، على مشتركات ثقافية. ويرتبط بروز هذا المبدأ، بظهور الدولة الحديثة، وبعصر القوميات، ونشوء نظام جديد في العلاقات الدولية، يوفر حماية قانونية لحدود كل دولة، واعتراف الدول بسيادتها ضمن تلك الحدود. وإلى ما قبل نهاية الحرب العالمية الأولى ونشوء عصبة الأمم، استمر الاعتراف عمليا بحق الفتح، الذي يتيح للإمبراطوريات التوسع في ممتلكاتها، على حساب الأمم الأخرى.

في دولة المواطنة، يعيش المنتمون لها، متمتعين بذات الحقوق، ولا يعود للتشكيل الديمغرافي أو الانتماء الديني أو المذهبي أو القبلي، أو الإثني، قيمة تضفي تميزا في الحقوق على الآخرين. والمواطنة بهذا المفهوم، تعطي للاختلاف والتنوع شكلا إيجابيا، يضيف قوة إلى المجتمع ولا يأخذ منها.

العقد الاجتماعي، ركن أساسي في دولة المواطنة، وترسخ حضوره، بعد صدور كتاب جان جاك روسو، الذي وضع تصورا متكاملا عن فكرة العقد. لم يكن روسو أول من تنبه لفكرة العقد الاجتماعي، فقد تأثر بكتاب الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة لتوماس هوبز، و"اتفاقيتان" لجون لوك. وروح القانون لمونتيسكيو.

انطلق هؤلاء الفلاسفة من أن الدولة ينبغي أن تقوم على وفاق أبناء الأمة، ويمثل الإرادة العامة للمجتمع. وطور روسو هذه النظرية، مضمنا سيادة دولة القانون، واحتكار الدولة لسلطة الإلزام الجبري.

وفقا لعقد روسو، يتساوى جميع أعضاء المجتمع السياسي، ويشتركون في ملكية أرض الوطن وموارده. وهم شركاء في القرارات المتعلقة بهم كمجموعة. والفرد حر في أفعاله، إذا لم ينص القانون بخلاف ذلك. ومهمة القانون والدولة، هي ضمان حريات الأفراد وحقوقهم، والمجتمع هو فوق الدولة وهو سيدها.

تطور مفهوم المواطنة لاحقا، ليتضمن دولة الرفاه، حيث لكل مواطن حق في الرعاية. والدولة تضمن كفالة الذين لا يتمكنون من الاعتماد على أنفسهم، كالأطفال والمرضى وكبار السن والعاجزين والعاطلين عن العمل. وقد أضاف هذا التطور، حقوقا اقتصادية لمفهوم المواطنة، إضافة إلى الحقوق السياسية.

أما فكرة الدولة المدنية، فهي نتاج التطور التاريخي، الذي ارتبط بمرحلة الرومانسية، التي هيأت لاندلاع الثورة الصناعية. وأساسها التبشير بنشوء دول تقوم على مبادئ المساواة ورعاية الحقوق، وتنطلق من قيم وضوابط في الحكم والسيادة. وتبلورت عبر إسهامات متعددة من مصادر مختلفة في العلوم الاجتماعية.

انطلق الفلاسفة الذين صاغوا فكرة الدولة المدنية، من اعتقاد راسخ بأن الطبيعة تقوم على الفوضى وطغيان الأقوى، حيث تسود نزعات القوة والسيطرة، ويغيب التسامح والتعاون من أجل العيش المشترك. إن تأسيس الدولة المدنية يتكفل بلجم تلك النزعات، ويصد البشر عن الاعتداء على بعضهم. وشرط تحقق ذلك، هو تدشين مؤسسات سياسية وقانونية، بعيدة عن هيمنة النزعات الفردية أو الفئوية. ومهامها، تنظيم الحياة العامة وحماية الملكية الخاصة، وشؤون التعاقد، وأن يطبق القانون على جميع الناس.

والأهم في الدولة المدنية، هو تمثيلها لإرادة المجتمع. إن ذلك يعني أنها دولة قانون، فهي اتحاد أفراد يخضعون لنظام من القوانين، ويعيشون في مجتمع واحد. مع وجود قضاء مستقل يطبق هذه القوانين بإرساء مبادئ العدل، حيث لا تنتهك حقوق أي من أفراده، من قبل أي كان. ويتحقق العدل من خلال وجود سلطة عليا، تحمي حقوق المجتمع، أفرادا وجماعات، وتمنع أي نوع من الانتهاكات أو التعديات عليها.

ولا تستقيم الدولة المدنية إلا بشيوع مبدأ المواطنة، حيث يعرف الفرد بهويته الوطنية، وليس بمهنته أو معتقده أو منطقته... وإنما يُعرف بأنه مواطن، له حقوق وعليه واجبات، يتساوى فيها مع جميع المواطنين. وفي هذه الدولة، يؤسس القانون قيمة العدل، والثقافة قيمة السلام الاجتماعي، والمواطنة قيمة المساواة.

لا تعادي الدولة المدنية، العقائد أو ترفضها، فهي الباعث والمحرض على الصدق والأخلاق والاستقامة والالتزام، والعمل والإنجاز. إن ما ترفضه هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، والاستغراق في تفسيرات تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الضيقة. ومن ثم فإن الدين ليس أداة للسياسة وتحقيق المصالح، ولكنه طاقة وجودية وإيمانية تمنح الأفراد مبادئ الأخلاق وحب العمل.

إن بناء الدولة المدنية، يستدعي تغييرا في المرتكزات الثقافية والفكرية الشائعة في البلدان العربية، وقبول فكرة التعدد والتسامح والتعايش السلمي مع الآخر، بما يعزز مفهوم الشراكة والتوافق الوطني. وهو وحده السبيل للعيش في القلب من المعاصرة، وليس على هوامش التاريخ.