نسمع كثيرا في النشرات الإخبارية عن دعوات للفرقاء السياسيين للجلوس إلى طاولة الحوار. في ذات الوقت يتم ذات الحدث على أنه مفاوضات بين الأطراف السياسية على عدد من القضايا الشائكة. هل طاولة الحوار وطاولة المفاوضات واحدة؟ هذا هو السؤال الرئيس لهذه المقالة.

في البداية يمكن ملاحظة أن إطلاق وصف الحوار والمفاوضة على ذات الحدث ربما نتج عن عوامل مشتركة تتيح للمتابع إمكان إطلاق ذاك الوصف أو الوصف الآخر. على سبيل المثال الحوار كما المفاوضة يتكوّن من أطراف متعددة وليس طرفا واحدا، أي أنها عملية تواصل بين أطراف متعددة. ثانيا الحوار كما المفاوضة يستدعي للذهن وجود خلاف بين الأطراف، وأن هذا الخلاف هو موضوع الاجتماع. ودون هذا الاختلاف لا يمكن تصوّر وجود التفاوض أو حتى الحوار. حالة التوافق ترد الأطراف المتعددة إلى طرف واحد يجمعهم. كذلك يمكننا القول إن الحوار هو في عمقه تفاوض حول معنى ما. بمعنى أن المتحاورين يقومون بمقابلة المعاني داخل الحوار ويتفاوضون في قيمها ومعانيها. المتفاوضون أيضا وبمجرد قبولهم للجلوس على طاولة التفاوض نفهم مباشرة أن لديهم استعدادا ولو نظريا لحل إشكالاتهم بطريقة سلمية لا بطريقة العنف.

كما أنه لا أحد يصف الحرب بالحوار، فإنه لا أحد يصف الحرب بالتفاوض. على العكس سماع دعوات الحوار والتفاوض تبشّر بإمكان توقف للقتال أو بشائر هدنة في الأفق. عامل الجنوح للعنف لا للسلم هو ما يبرر رفض كثير من الأطراف التفاوض مع أطراف أخرى؛ لأنها ترفض مبدأ قبول الطرف الآخر أو التعامل معه. مثلا، كثير من الحكومات، على الأقل في العلن، ترفض التفاوض مع الجماعات الإرهابية أو الخاطفين أو من شابههم، باعتبار أنها ترفض إعطاء تلك الجماعات اعترافا ولو اعتباريا بالوجود أو التمثيل أو القيمة. إذن في الصورة العامة الحوار والتفاوض يحملان معاني وسمات مشتركة، تجعل من الحديث عنهما كسلوك متشابه معقولا من الوهلة الأولى.

لكن في المقابل ورغم التشابه الظاهري، إلا أننا أمام سمات اختلاف بين السلوكين تتعلق بالسياق وبغرض الاجتماع وأدوات التعامل. بالنسبة للسياق فإن سياق التفاوض هو سياق غير آمن. بمعنى أن التفاوض يأتي في سياق متأسس على صراع سابق، وانسداد لخيارات الأفراد الأولى. بمعنى أن التفاوض هو غالبا الخيار الثاني للأطراف لا الخيار الأول. الخيار الأول هو الغلبة والحصول على كل شيء دون تقديم تنازلات. التفاوض هنا هو حل وسط بين الخيار الأول "الغلبة دون تنازل" وبين النتيجة الأخيرة والخطيرة، وهي الخسارة الكاملة والخروج دون أي مكاسب. هذا السياق الذي ينشأ التفاوض داخله يجعل من التفاوض صراعا ناعما للقوى. بمعنى أن كل طرف يأتي محملا بشروط محددة للقوى والتفاوض هو في الأخير إتاحة لهذه القوى للتوازن بطريقة هادئة وبعيدة عن العنف المباشر. هذا الصراع للقوى ليس فقط بين الأطراف المتحاربة، ولكنه يتحقق كذلك في مفاوضات الشركات والقوى الاقتصادية فيما بينها أو حتى في تفاوض صاحب العمل مع طالبي العمل على الأجور وطبيعة العمل. كذلك يتحقق في التفاوض على معاني الرموز في العلاقات الاجتماعية.

في المقابل فإن السياق الحواري سياق آمن. بمعنى أنه سياق لتسليم القوى لا لاستعمالها للضغط على الطرف الآخر. في الحوار يسعى كل طرف لتأمين الطرف الآخر لا تخويفه. الحوار هنا يأتي لا كخيار ثان بل كخيار أول. بمعنى أن الحوار ليس خطة رديفة للخطة الأساسية التي هي السيطرة على الطرف المقابل، وتحويله إلى تابع مطيع. هناك بالطبع من يفهم الحوار بهذا الشكل، ولكن دعوى الحوار هنا تتحول إلى مجرد استراتيجية دعوية، تفقد مباشرة معنى الحوار، وتتحول إلى حيلة أخرى لتحقيق الهدف الأساس الأول.

من هنا يمكن أن نرى أن غرض التفاوض يختلف كذلك عن غرض الحوار. في التفاوض الطرف الآخر ليس مقصودا بحد ذاته بل بقدر ما هو قوّة مقابلة أو منافسة. التفاوض هنا علاقة أداتية مباشرة. بمجرد أن يفقد أحد أطراف التفاوض المكانة المادية التي أهلته للمنافسة، فإنه يختفي من تصوّر المفاوضين، ويغيب مباشرة عن المشهد. في الحوار الطرف الآخر غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة. بمعنى أن الحوار هنا هو سلوك طبيعي للتواصل مع الآخرين بما يكفل لهم الحضور والظهور. الحوار هنا ليست حالة طوارئ أو حالة استثناء، بل هي إدراك لمعنى الوجود مع الآخرين، وإدراك لأزمة تحويل الآخرين لمجرد أدوات للاستعمال.

كذلك أدوات التفاوض هي استراتيجيات ضغط لتحقيق الغرض الأساسي وهو أن تعطي أقل قدر ممكن وتأخذ أكبر قدر ممكن. الأدوات هنا هي أدوات للمناورة وعينك على نقاط القوة ونقاط الضعف عند الطرف المقابل. أدوات التفاوض هنا هي أدوات الصراع الميداني ولكنها مقدمة في شكل كلمات وعبارات. من هنا نفهم أن التفاوض هو حلقة في مسلسل طويل. أو لقطة في مشهد. التفاوض هنا هو صورة ملطفة لساحة الصراع الفعلية في مجال التنافس. المتفاوضون السياسيون يحضرون متكئين على أسلحتهم وجنودهم على الأرض. الشركات الاقتصادية تفاوض متكئة على قواها المالية وسيطرتها على السوق. صاحب العمل يفاوض متكئا على أرقام البطالة وفقر المتقدمين للعمل. في المقابل أدوات الحوار هي النوايا الطيبة والرغبة الصادقة في التواصل السلمي والعميق مع الطرف الآخر. في الحوار ثقة لا توجد في التفاوض. المفاوض الذي يعتمد على مجرد الثقة بالطرف الآخر مفاوض ساذج وسيخسر بالتأكيد. المحاور في المقابل ساذج ولكنه في علاقة تتأسس على السذاجة. بمعنى أنها علاقة معلنة الأهداف والغايات وسليمة من المناورات والضغوطات. الحوار هو علاقة نذهب لها اختيارا لنمارس فيها الثقة والأمان بينما التفاوض حالة حذرة تلجأ لها اضطرارا في صفحة جديدة من صراع القوى. أو بعبارة أخرى: المتحاورن أحباب والمتفاوضون أغراب.